كنت قد انتهيت من شرح تاريخ الدولة العباسية الثانية الذى كان مليئا بالفوضى والتشرذم والقلاقل والحروب الأهلية، حيث ضعفت الخلافة العباسية بشكل غير مسبوق وتصاعدت قوة الطولونيين والإخشيديين والفاطميين والقرامطة وغيرهم.
اليوم أستعرض تاريخ العصر العباسى الثالث والذى بدأ فى عام ١٠٣١م بتولى الخليفة القائم بأمر الله (ابن الخليفة القادر بالله وقطر الندى) وانتهى فى عام ١٢٥٨م مع سقوط بغداد على يد التتار وإعدام الخليفة المستعصم بالله. على مدى ٢٢٧ عاما هى عمر الدولة العباسية الثالثة، تولى اثنا عشر خليفة حكم معظمهم فترات طويلة نسبيا مقارنة بخلفاء العصر العباسى الثانى، كما أن ثلاثة منهم فقط تعرضوا للقتل بينما أكمل تسعة خلفاء الحكم حتى الوفاة الطبيعية فى مؤشر على استقرار نسبى للدولة العباسية فى عصرها الثالث مقارنة بالثانى.
لكن من الخطأ هنا المبالغة عند تقييم هذا العصر، فلم يكن هذا الاستقرار النسبى مؤشرا على قوة الدولة، بل العكس تماما هو الصحيح، كان هذا الاستقرار مؤشرا على تأقلم معظم خلفاء العصر العباسى الثالث مع حقيقة تآكل قوة الخلافة العباسية وتمركزها فى بغداد والمناطق المحيطة بها فقط. ربما لم يخرج عن هذا التواؤم سوى الخليفة أحمد الناصر لدين الله والذى امتد حكمه لمدة ٤٧ عاما (١١٨٠ ــ ١٢٢٥م) حيث حاول إعادة الخلافة لسابق عهدها بمحاربة السلاجقة وهم شعوب من أصول تركية كانت تعيش فى وسط آسيا تحولت إلى الإسلام وقامت بغزو وسط آسيا والمناطق الفارسية واستولت على أملاك الدولة الغزونية (شمال شبه القارة الهندية) حتى دعا الخليفة العباسى القائم بأمر الله قائدها (طغرل بك) لتنصيبه سلطانا وزوجه ابنته فى محاولة لتعضيد الحكم العباسى، لكن استقل السلاجقة بحكمهم لاحقا وأصبحوا تهديدا حقيقيا للدولة العباسية.
كذلك ففى عهد الخليفة الناصر لدين الله فقد انتصر صلاح الدين الأيوبى على الصليبيين واستعاد القدس تحت السيطرة الإسلامية فى موقعة حطين (١١٨٧م) وذلك بعد أن أصبحت الخلافة الإسلامية العباسية (بالإضافة للدولة الأيوبية فى مصر وبلاد الشام والدولة السلجوقية فى الأناضول) فى مهب الريح بفعل الحملات الصليبية التى شنتها الإمبراطورية البيزنطية تحت راية الصليب التى حاولت دينيا توحيد الكنيستين الشرقية والغربية وهو الأمر الذى فشل مرارا قبل ذلك كما فشل هذه المرة أيضا!
***
زحف السلاجقة نحو الأناضول فى عهد الدولة العباسية كان بمثابة الإرهاصات الأولى للخلافة العثمانية، فعرف عن السلاجقة مهاراتهم العسكرية وكذلك مهارات إدارة الدولة. ففى الأناضول تمكن السلاجقة من تنظيم هجرات التركمان للاستقرار بالمنطقة وبناء الدولة الجديدة، كذلك فقد اتبعوا سياسات الدمج بمهارة وتسامح شديد. فكما فعل المسلمون الأوائل فى مصر، حيث عاملوا أهلها الأقباط بشكل أفضل بكثير من تعامل البيزنطيين، فقد فعل السلاجقة الأمر نفسه ففى عهدهم تمتع المسيحيون واليهود بامتيازات عديدة فى الصناعة والتجارة والزراعة وإدارة شئون الدولة، بل وقد أصبح عدد كبير للغاية من المسيحيين جنودا نظاميين فى جيوش السلاجقة وحاربوا بجانبهم حتى ضد الحملات الصليبية!
قام السلاجقة أيضا بإحياء تقاليد بيت الحكمة حيث استقطبوا الفلاسفة والشعراء والعلماء والأدباء وأحدثوا نهضة ثقافية عظيمة فى الأناضول لكن لم تدم كثيرا بفعل تدهور قوة الدولة السلجوقية سريعا!
ومن الملفت للنظر أنه عندما قام التركمان بثورة ضد السلاجقة اعتراضا على سوء أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية وحظوظهم السياسية والعسكرية، فإن الجيش السلجوقى الذى حاربهم كان به هؤلاء الجنود المسيحيون راسمون الصلبان على جبهتهم، وبحسب بعض المؤرخين فإن قادة التركمان قد استخدموا علامة الصليب هذه لإثارة الحماس فى دم الجنود التركمان (المسلمين) لمحاربة الصليبيين (فى إشارة إلى جيش السلاجقة وليس إلى الجيش البيزنطى) وكانت هذه الثورة بداية انهيار السلاجقة فى الأناضول بحيث بدأ المغول فى التسلل إلى الأناضول وحكمها!
كل ذلك كان يتم بمعزل تام عن الخلافة العباسية فى عصرها الثالث بحيث إن الخليفة فعليا كان أقرب لأن يكون خليفة لبغداد وضواحيها أكثر من كونه فعليا خليفة للمسلمين!
***
هنا لابد أن نقف قليلا متأملين فى ملحوظتين هامتين لإعادة فهم التاريخ السياسى للإسلام والمسلمين:
الملحوظة الأولى أن وحدة المسلمين تحت قيادة خليفتهم هى محض أوهام وأحلام خالصة! الأصل أن معظم الخلافات الإسلامية كانت مفككة داخليا وخارجيا. فمن ناحية كانت هناك ثورات داخلية وتنافس دائم على الشرعية حتى بين أبناء الأسرة الواحدة، ومن ناحية ثانية فإن معظم فترات الخلافة الإسلامية كانت الدولة الإسلامية غير موحدة إلا اسما، فقد كانت الخلافة الاسمية فى العاصمة بينما السيادات الفعلية كانت لأمراء ووزراء وسلاطين وقادة جيوش حكموا فعليا فى مختلف بقاع هذه الخلافة! إذا ما أضفنا إلى كل ذلك حقيقة دامغة تتعلق بأن الخلافة ما بعد الراشدة لم تكن سوى حكم أسر وقبائل وعشائر تتنافس على السلطة بالأساس وفى سبيل ذلك تم إهدار دماء المسلمين وتدنيس حرماتهم، فتكون الصورة أوضح، لم تكن خلافة موحدة ولم تكن إسلامية بقدر ما كانت عائلية حتى لو كان الدين الإسلامى أداة لتعضيد الشرعية السياسية فى ذلك الوقت!
أما الملحوظة الثانية فتتعلق بحقيقة يحاول بعض المسلمين الالتفاف حولها، ألا وهى أن الإسلام لم يتمكن أبدا بمفرده من تشكيل وعى وحضارات الشعوب الإسلامية فى تلك الفترات، بل ظلت العادات والتقاليد والثقافات المختلفة فى حالة تفاعل دائم بالتأثير والتأثر مع الدين الإسلامى! فتحفل كتب التاريخ الإسلامى بشرح كيف أن التركمان (مثلا) تأثروا فى حياتهم وطرق حكمهم وتواصلهم بديانتهم الشامانية القديمة، حتى أن قائد ثورتهم ضد السلاجقة (بابا عشق) كان بمثابة كاهنا شامانيا أكثر من كونه شيخا إسلاميا وكيف أنه استخدم الممارسات الشامانية فى اجتذاب الجنود السلاجقة والتأثير عليهم بالإضافة إلى استغلاله لكون بعض الجنود السلاجقة مسيحيين يرسمون الصليب على جبهاتهم فى هزيمة السلاجقة!
***
فى عام ١٢٤٢م تولى الخليفة المستعصم بالله السلطة فى بغداد وبدا لوهلة أنه سيكون قادرا على ترسيخ حكم الخلافة العباسية واستعادة هيبتها، فقد هزم السلاجقة ووهنت قوتهم، كذلك لم يتمكن التركمان من تأسيس دولة مستقلة قوية فى الأناضول، بل وقد انتهت فى عهده الدولة الأيوبية (١٢٥٠م) بموت الصالح أيوب وارغام شجر الدر على الاستسلام.
كذلك فقد منيت الحملات الصليبية فى عهده بالهزيمة (الحملة الصليبية السادسة فشلت وتلقت هزيمة موجعة بعد استعادة القدس من الصليبيين عام ١٢٤٤م فى معركة «لافوربى» بينما انهزمت الحملة الصليبية السابعة أثناء حكمه فى مصر).
لكن ورغم كل تلك الإشارات الإيجابية، إلا أن الخطر المغولى ظل محيطا بالخلافة العباسية إلى أن سقطت بغداد بخيانة من داخل البلاط العباسى فى يد هولاكو ملك المغول والذى تمكن من هزيمة العباسيين بعد أن تحالف مع الأرمن وبعض الصليبيين فى وقت كان الجيش العباسى ضعيفا فتم الاستيلاء على بغداد وارتكاب المذابح بحق أهلها وبالطبع تم قتل الخليفة المستعصم بالله ليظل المسلمون بلا خليفة لثلاث سنوات متصلة (١٢٥٨/١٢٦١م) وهى الأطول فى تاريخ المسلمين بخلافة شاغرة حتى تأسست دولة الخلافة المملوكية فى مصر ليبدأ العهد العباسى الرابع فى القاهرة!
أستاذ مساعد العلاقات الدولية بجامعة دنفر.