حتى الآن، تعتبر العواقب الاقتصادية الدولية للحرب فى القوقاز بسيطة، على الرغم من دور جورجيا كممر رئيسى لناقلات البترول. ولكن، بينما كنت أقرأ الأنباء السيئة الأخيرة، وجدت نفسى أتساءل عما إذا كانت هذه الحرب نذيرا بأن عصر العولمة الثانى سوف يلقى نفس مصير العصر الأول، أم لا.
وإذا كنت تتساءل عما أتحدث عنه، فإليك ما تحتاج لمعرفته: عاش أجدادنا فى عالم يتسم بالاكتفاء الذاتى على نحو كبير، حيث الاقتصادات الوطنية المنكفئة على ذاتها، غير أن أسلاف أجدادنا، عاشوا مثلما نعيش فى عالم من التجارة الدولية والاستثمار واسع النطاق، وهو عالم دمرته القومية.
وفى 1919 كتب الاقتصادى البريطانى العظيم جون مينارد كينز يصف الاقتصاد العالمى عشية الحرب العالمية الأولى: «يستطيع الساكن فى لندن، وهو يحتسى شاى الصباح فى فراشه، أن يطلب مختلف المنتجات من أنحاء الأرض.. ويستطيع فى اللحظة نفسها، وبالوسيلة ذاتها أن يغامر بثروته فى موارد طبيعية ومشروعات جديدة فى أى من أنحاء الأرض».
والمواطن اللندنى كما يراه كينز «يعتبر هذه الحالة طبيعية، ومؤكدة، ودائمة، ولا تتغير إلا فى اتجاه المزيد من التحسن.. وبدا أن المشروعات والسياسات ذات النزعة العسكرية والإمبريالية والقائمة على التناحرات العرقية والثقافية والاحتكارات والقيود والإقصاء.. ليس لها تأثير تقريبا على المسار العادى للحياة الاجتماعية والاقتصادية، التى كان تدويلها تاما على وجه التقريب فى الواقع».
ثم مرت ثلاثة عقود من الحروب والثورات والاضطراب السياسى والكساد، ثم حرب أخرى. وبنهاية الحرب العالمية الثانية كان العالم قد تشرذم اقتصاديا وسياسيا. واستغرق تجميعه مرة أخرى مرور جيلين. فهل يمكن أن يتمزق مرة أخرى؟ نعم، من الممكن.
وانظر كيف سارت الأمور فى أزمة الغذاء الحالية. لقد ظللنا نسمع لسنوات أن الاكتفاء الذاتى مفهوم عفا عليه الزمن، وأنه من الأسلم الاعتماد على الأسواق العالمية للحصول على إمدادات الغذاء. ولكن عندما ارتفعت أسعار القمح والأرز والذرة، عاد مرة أخرى ما سماه كينز «مشروعات وسياسات القيود والإقصاء»؛ فقد هرع العديد من الحكومات لحماية المستهلكين المحليين عن طريق حظر الصادرات أو تقييدها، تاركا البلدان المستوردة للغذاء فى حالة يرثى لها.
والآن تأتى «النزعة العسكرية والإمبريالية» ذاتها. فالحرب فى جورجيا، مثلما قلت، ليست ذات شأن كبير اقتصاديا. لكنها تسجل نهاية حقبة السلام الأمريكى، التى احتكرت فيها الولايات المتحدة تقريبا استخدام القوة العسكرية. وأثار ذلك بعض التساؤلات الحقيقية حول مستقبل العولمة.
وعلى نحو أوضح، يبدو اعتماد أوروبا على مصادر الطاقة الروسية، وبخاصة الغاز الطبيعى، خطيرا جدا الآن، ويمكن القول إنه أخطر من اعتمادها على بترول الشرق الأوسط. وعلى أى حال، فقد استخدمت روسيا الغاز كسلاح عام 2006، عندما أوقفت الإمدادات إلى أوكرانيا وسط نزاع حول الأسعار. وإذا كانت روسيا راغبة وقادرة على استخدام القوة لفرض السيطرة على ما تعتبره مجال نفوذها، ألن يفعل الآخرون الشىء نفسه؟ فكر فقط فى الاضطراب الاقتصادى العالمى، الذى سيواجه العالم، إذا قامت الصين التى توشك أن تتفوق على الولايات المتحدة كأكبر دولة صناعية فى العالم بفرض سيادتها قسرا على تايوان. ويطمئننا بعض المحللين، فهم يقولون إن التكامل الاقتصادى العالمى فى حد ذاته يحمينا من الحرب، لأن الاقتصادات الناجحة القائمة على التبادل التجارى لن تعرض ازدهارها للخطر بالتورط فى مغامرة عسكرية. ولكن ذلك أيضا يثير ذكريات تاريخية غير سارة.
فقبيل الحرب العالمية الأولى مباشرة، نشر مؤلف بريطانى آخر، هو نورمان أنجل، كتابا شهيرا بعنوان «الوهم الكبير» ذكر فيه أن الحرب صارت فكرة بالية، وأنه حتى المنتصرين عسكريا فى المجتمعات الصناعية الحديثة يخسرون أكثر مما يكسبون. وكان محقا، لكن الحروب ظلت تندلع رغم ذلك.
وهكذا، فهل أُسس اقتصاد العولمة الثانية أكثر صلابة من الأولى؟ نعم، من بعض النواحى. فعلى سبيل المثال، لا يبدو من الممكن الآن فعليا تصور وقوع حرب بين دول أوروبا الغربية، وهذا لا يرجع إلى الروابط الاقتصادية بقدر ما يعود إلى القيم الديمقراطية المشتركة بينها. ومع ذلك، فالكثير من دول العالم لا تشارك فى تلك القيم، ومن بينها بلدان تلعب دورا رئيسيا فى الاقتصاد العالمى. وقد دأب معظمنا على الاعتقاد بأنه، ما دامت الأمور الاقتصادية تسير على مايرام، فهذا لا يهم، حيث إننا نستطيع الاعتماد على استمرار التدفق الحر للتجارة العالمية لمجرد أنها مربحة. لكن هذا ليس افتراضا مأمونا.
فقد كان أنجل على حق عندما وصف الاعتقاد فى أن الغزو يحقق مكاسب، بأنه وهم كبير. لكن الاعتقاد فى أن العقلانية الاقتصادية تمنع الحروب دائما، وهم كبير بالقدر نفسه. فالدرجة العالية من الاعتماد الاقتصادى المتبادل عالميا فى الوقت الراهن، التى لا يمكن استمرارها إلا إذا تصرفت الحكومات الكبرى بتعقل أكثر هشاشة مما نتخيل.