أمسك القلم بفمه عوضا عن يد وكف وأصابع حجبها القدر عنه منذ ولادته، ليخط قصة كفاح رائعة، ضغط على القلم بأسنانه كما اعتاد طوال حياته العلمية ولكن هذه المرة لينقش على الورق ملحمة إنسانية فريدة ومختلفة، كأنه ينقش الأحرف على حجر كما اعتاد أن يحفر ظروف حياته على حجر الحياة الصعب الأصم.
لم يستسلم هو وأسرته لليأس أبدا، حينما اشتد وجع الولادة على أمه وحضرت الداية وظهر المولود المنتظر إذا بالوجوم والدهشة تطبق على الجميع ولا يقطعها سوى صراخ المولود الذى بدا وجهه وسيما، ولكنه دون ذراعين أو على وجه الدقة ضامر الذراعين.
توجهت نظرات المواساة للأم وكأن الداية ومساعدتها فى مهمة عزاء وليس فى فرح ولادة، صرخت الحاجة مبروكة فنهرتها الداية التى ترددت فى تسليم الطفل لأمه، ولكنها لفَّته لترى الأم وجهه دون يديه، ولكن الأم أدركت الفاجعة سائلة: أين يداه؟ لا توجد إلا أصابع صغيرة فى يد ضامرة، تمنت أن يكون ذلك كابوسا لا يمت للحقيقة بصلة.
دخل الأب بعد هياج غرفة الولادة فرأى الذهول والحيرة فى الوجوه فأرسل عينيه إلى المولود، ثبت الأب وصبر حينما رأى حالة ابنه الذى ضمه إلى صدره وسلمه لزوجته وقبَّل جبينها، وقال للجميع مطمئنا «الله الذى خلقه سيوفقه فى حياته.. لا تخافى» بكت الأم، ولهج الجميع بالحمد استلهاما لكلمات الأب وأخذوا يزرعون الأمل فى قلب الأم.
ذهب الأب إلى المسجد وبكى بكاءً مرا أثناء سجوده وظل يدعو «يا رب أنت خلقته بهذه الصورة وبيدك أمره فأعنه وساعده، وأعنا وساعدنا» وظل يهتف بقلبه ولسانه «يا رب يا رب» ودموعه تبلل سجادة صلاته.
عاد للبيت أكثر تفاؤلا، حكى لهم عن قصة طه حسين وغيره، سمعت القرية كلها بالمولود العجيب، أسموه «رضا» تعبيرا عن رضاهم عن الله وقدره مهما كان صعبا.
كانت الخرافة شائعة فى القرى وقتها عام 1964 ولكن الأب الصالح وزوجته رفضا كل الخرافات، كانت أمه تهيب التعامل معه فى البداية ولكنها اعتادت عليه.
بدأ الأب يحكى لأسرته عن «هيلين كيلر» وغيرها ممن صنعوا ملاحم إنسانية رائعة، بدأ رضا يتحرك فى الحياة لينقش على حجرها الأصم رحلة كفاح رائعة، والآن ها هو يكتبها بقلم فى فمه على الورق ليصير كتابا يخلد كفاحه.
كلاهما كان صعبا وشاقا عليه، وكما أن كل فصل كتبه على الورق فى كتابه سبب له آلاما مبرحة فى فمه أو كتفيه، فإن كل فصل من فصول حياته تطلب جهدا خارقا.
لم يسع المذيع القرآنى اللامع أ/ رضا عبدالسلام أن يكون فى مذاكرته بطلا مثاليا لا ينكسر أو يصور نفسه ينتقل من إنجاز إلى آخر ومن نصر إلى آخر دون عناء فظيع ودون معاناة لا تحتمل، كان واقعيا فى نقش أيامه على حجر الحياة الأصم، وواقعيا فى تسطير قصة حياته بقلم فى فمه على حجر الأوراق.
آه من الصعاب آه، أن توجد بين أطفال قريتك ويراك الأطفال دون ذراعين، كيف ستلعب معهم؟ كيف تقضى معهم ست سنوات كاملة فى الابتدائية؟ وليس هناك شىء فى القرى مجهز للتعامل مع مثل هذا الطفل؟ وكيف سيعانى بعد الوصول إلى المدينة ليدخل المدرسة الإعدادية التى لا يعرف فيها أحدا.
كان يرفض أن يكون الطفل البركة أو من يستدر عطف الآخرين أو مصمصة شفاههم، كان يريد أن يعامله الناس كالأسوياء القادرين ذوى العزائم.
ضربه أبوه يوما لأن رجلا أطعمه بيده أمام الناس، من يومها عزم أن يقضى كل أموره بنفسه، ويعتذر عمن يريد مساعدته ويشكره أيضا، حتى يتعود أن يفعل كل أموره بنفسه يأكل ويشرب ويكتب وحده، بل ويلعب ويغلب أقرانه فى الكرة دون مساعدة، ويعتمد على نفسه ولا يركن إلى الناس إلا فيما لا حيلة له فيه.
ولهذا أصر بعد ذلك على أن يكتب وحده، وأصر أن يكون مذيع هواء ولا يكتفى بالتسجيل فى الإذاعة، ليكون أول مذيع هواء فى العالم كله دون ذراعين، ويصر على تغيير أماكن الأزرار فى أجهزة إذاعة الهواء، ليكون بعضها عند قدميه بدلا من اليدين، وقد استجاب مدير شبكة القرآن الكريم الأسبق أ/ محمد المنشاوى لطلبه.
لقد رفض أ/ رضا كمذيع هواء مرارا دون اختبار فكان يعتصر ألما لذلك، ولكنه أصر على تحقيق حلمه اللانهائى، واقتحم الأمر اقتحاما مما جعله يدخل على المرحوم/ حلمى البلك الإعلامى الكبير، كان وقتها مذيعا فى إذاعة وسط الدلتا ولكنه لم يقنع بذلك، يريد الهواء لتنطلق ملكاته الحبيبة، يريد القمة دائما ولا يقنع بالقاع.
دخل على المرحوم البلك فى مكتبه فجأة، جلس دون استئذان، قال له: لا تسألنى حتى أنتهى من كلامى، خلع جاكته، أمسك القلم بأسنانه ثم لبس الجاكت مرة أخرى دون يدين، أمسك القلم بأطراف أصابعه ووضعه فى فمه، كتب على ورقة أمامه، قال للبلك: سأعتبر هذا القلم هو الميكرفون وسعادتكم الضيف الذى سأسجل معه، وظل يتصرف بكل شىء ويحكى بانفعال قائلا: دخلت امتحان مذيع الهواء مرتين دون امتحان وتم إبعادى، أليس ذلك حراما، امتحنونى بحيادية.
نظر إليه البلك فى إعجاب ودهشة، وكان الامتحان والنجاح ليعبر طريق الإذاعة مرتين، الأولى حينما زكاه لذلك رائد الصحافة الاجتماعية عبدالوهاب مطاوع برسالة إلى العبقرى/ فهمى عمر «من يحمل هذه الرسالة يهمنى أمره»، فلم يخب رجاء صديقه ثم أصبح بعد نجاحه مذيعا عاديا، ثم عبر بعدها الأصعب والأشق وهو مذيع الهواء.
كانت مسيرة شاقة وصعبة فى بلد ظل لا يهتم بهؤلاء الأبطال إلا منذ سنوات قليلة حينما أظهر الرئيس السيسى اهتماما كبيرا بذوى الهمم وجعل لكل طفل منهم معاشا يعينه ويستره ويعين أسرته على تحمل نفقاته، هذه الشريحة ليست قليلة ولكنها الآن تقدر لقرابة 15 مليونا حسب تقرير الأمم المتحدة، وقمة الاهتمام تولى بطلنا الكبير رضا عبدالسلام رئاسة إذاعة القرآن الكريم.
ولكن الله الذى خلق هؤلاء خلق لهم الإرادة الإنسانية التى أوجدها الخالق سبحانه لتعمل عملها فتسعد وتسعد من حولها وتكوِّن أسرا ناجحة، ولعل أ/ رضا نموذجا لذلك فلديه ابن فى كلية الطب وابنة فى كلية الإعلام وزوجة فاضلة كريمة تعد الأم الثانية له.
المذيع العبقرى رضا عبدالسلام ظل يكافح ويثابر منذ بداية حياته حتى الآن ومنها ثلاثون عاما فى الإذاعة ليتوج كفاحه بترؤسه لإذاعة القرآن الكريم.
تحية وسلاما للمذيع العبقرى صاحب العزيمة والهمة الحديدية، صديقى الحبيب الودود رضا عبدالسلام ولأمثاله ممن حرموا نعما فحولوا البلية إلى عطية والمحنة إلى منحة.