أن يرحل كاسترو فهو أمر متوقع ولم يكن سريعا ولا غريبا فالرجل قد عاش 90 عاما رغم سنوات سجنه ونضاله.. نعم نضاله؛ تلك الكلمة التى أصبحت تستفز البعض من الثوريين الحداثيين.. فهناك حتما حداثية فى الثورية كما هى حداثية فى المال والثروة مع شديد الاعتذار.. عندما أعلن خبر الرحيل قام الكثير ممن شاب شعرهم فى السجون وفى مدن الاغتراب والنفى بنعيه بكثير من الخشوع والاحترام التى تترافق مع فعل الموت فلا يمكن أن يكون الموت برفقة الشماتة أو النقد اللاذع الذى اعتاده بعض الثورجية الحداثيين!
***
هو الذى يمثل لأجيال كاملة من البشر النضال الحقيقى من أجل العدالة والحرية رغم ما قيل عن انتهاكاته عندما حكم كوبا بما يتعلق بحقوق الإنسان، فنحن لا ننزله مركز النبوة رغم أن حتى الأنبياء لم يكونوا معصومين من الأخطاء والكثير من الثغرات.. ما يهم أجيال ممتدة من أمريكا اللاتينية غربا حتى فيتنام وأقاصى آسيا شرقا أنه شكل لهم حالة ثورية عالمية عابرة للحدود والقوميات والأديان والأعراق.. هو ورفيق دربه تشى جيفارا وقفا ليشكلا، رغم عن كل الثوريين الحداثيين، حالة من اليوتوبيا الثورية العامة وثورة ضد الرأسمالية والاستعمار فيما كثير من الدول كانت تنتفض تدريجيا لتخرج من تحت عباءة الاستعمار القديم والحديث.. وقف هو فى نضالاته مع شعوب العالم وحرر كوبا من ديكتاتور كان قد حولها إلى ماخور للأمريكان.. ففيما كانت كوبا بلد للمخدرات والدعارة أو مساحة للأمريكان ليمارسوا ما يشاءون من الأقذار خارج حدود بلادهم «النظيفة»، جاء كاسترو ورفاقه لتصبح كوبا بعد سنين قلعة منيعة فى وجهم جميعا وشوكة فى خاصرة أمريكا الجنوبية بقيت موجعة رغم مر السنين.. لا يمكن أن يدفن البعض كل هذا تحت انتقادات لتقصيره وانتهاكاته فى مجال حقوق الإنسان كما يفعل الكثيرون دوما فى مراجعتهم للكثير من الشخصيات الرمزية فى مرحلة الثورات المتعاقبة مع انحسار الاستعمار عن مناطق واسعة من العالم.
ويبدو النقد واجب فى حلقات النقاش والمراجعة ولكن فى الموت والنعى لا بد أن يقف بعض الثوريين الحداثيين ويتمهلوا بعض الشىء، ففى ردود فعلهم كثير من التعالى على آلام شعوب ووجع سنين من الاستعمار والاستغلال وحكم المتخاذلين والمتساقطين المستعدين لبيع أوطانهم لتكون ملهى ليلى كبير لصالح الدول الكبرى مقابل تنازلات كثيرة منها مصلحة تلك الشعوب وحقوقها الأساسية فى الاستقلال.
***
كاسترو رجل من زمن آخر كان أكثر تلاحما وقربا.. رجل من زمن كان فيه البشر أكثر نقاء وعزة وحب للوطن والحرية لا ينازعه حب.. هو رجل من ذاك الزمن الجميل الذى كانت فيه كوبا كما مصر الأكثر قربا لكل الضعفاء فى العالم.. وكان أن تصور بعضهم أن الوقوف فى وجه الرأسمالية ممكن وفى وجه الاستعمارات بأشكالها قابل والتحرر أيضا قريب بكثير من الدم ربما ولكنه لا يأتى على دبابات ودولارات أحد فقط بسواعد الأبناء المتحدين.. بشر اختلفت ألوان بشرتهم وبقيت قلوبهم عالقه هناك حيث الحرية الحقة.
***
للأصدقاء الثوريين الجدد؛ ارحمونا ودعونا نودع كاسترو كما يليق به.. كما يليق برجل وقف عند خاصرتهم وراح يرسل الغصة كلما تحدثوا عن امتداد نفوذهم وامبراطوريتهم الواسعة، ربما ليس الامتداد الاستعمارى التقليدى بل ذاك الجديد جدا حيث الفكر والأفكار أقوى من وقع الدبابة على الأرض.. برحيل كاسترو تسدل الستارة على مرحلة من تاريخ البشرية كل البشرية قد لا تعود ربما إلا بعد طول حين! وداعا كاسترو.. لك السلام وعليك كل السلام.