تخيل يوما فى مدينة تعرفها جيدا، لك فيها أصدقاء كثر، وتخيل أن تخرج من مكان إقامتك مع معرفتك أنك لن تعود إليه سوى فى المساء، لتكتشف أنك لم تأخذ معك هاتفك النقال. ترتبك لثوان، تحرك يديك فوق جيوبك وداخل الشنطة، تغير من جلستك، أنت فى طريقك إلى مكان بعيد فيه مواعيد سبق أن أكدتها. تحاول أن تعقلن الأمور: وما حاجتى للتواصل، لا سيما الافتراضى، حين يكون يومى منظما وأنا برفقة آخرين؟ تتذكر سنوات بعيدة كان فى بيت الأسرة جهاز هاتف يستخدمه جميع سكان المنزل. كان فى غرفة الجلوس، بحيث يسمع رنينه فى أرجاء المكان، يتربع على عرش وسط الغرفة، غالبا فى مكان أقرب إلى كرسى الأب أو الأم، وكانت المكالمات تأتى فى الصباح من أفراد العائلة والجيران، وتتوقف بين فترة الظهيرة والعصر، أى وقت القيلولة، ثم تعود بين المغرب والمساء، لتتوقف نحو الساعة التاسعة حتى صباح اليوم التالى.
***
ثم أصبح فى البيت أكثر من جهاز وسمح ذلك ببعض الخصوصية، إلا حين كان يقرر فيه الأهل أن مكان الجهاز الثانى هو غرفة نومهم. ربما كان أحد الجهازين مركبا على الحائط وله سلك طويل يسحبه الأبناء والبنات بعيدا عن مركز البيت هربا من فضول الآخرين. وقتها كانت الخطط ثابتة لا مجال للتغيير فيها بعد الاتفاق إلا عند الضرورة، ووقت الطوارئ يتم مهاتفة قريب أو جار ونطلب منه التدخل فى حال تعثر الوصول إلى صاحب الشأن.
***
طبعا كان ذلك البريد الإلكترونى، والذى أمضى هو الآخر سنوات مقيدا داخل جهاز فى مكان العمل، ثم تسلل إلى البيت دون أن يخرج من الحاسوب. تلى ذلك الهاتف الذكى الذى سمح بالدخول فى أى وقت إلى علبة البريد الإلكترونية، ورافق ذلك ولادة وسائل التواصل الاجتماعى التى أحبها الكثيرون منذ اليوم الأول واستهجنها آخرون.
***
رأيتنى إذا أعدد تطورا حدث فى السنوات العشرين الأخيرة جعل منى أسيرة للهاتف، حتى أننى أتخيل أحيانا أن جيل أحفادى حين يشب سوف يتدلى من يد أولاده جهاز ذكى وكأنه عضو فى الجسد. وبما أننى ابتعدت فعلا عن هاتفى، إذ إن تعداد وسائل التواصل ولو بشكل سريع استغرق منى عدة دقائق، إذ إننى عرجت على الهاتف الأسود الثقيل بقرصه المعدنى فى بيت جدتى، وعبرت فوق الجسر الانسيابى المعلق على الحائط فى بيت عائلتى، قبل أن أتذكر أول جهاز هاتف نقال رأيته مع صديق فلم أفهم مدى حاجة التواصل الدائم، ثم تذكرت شرح أخى لى عن شبكات التواصل الاجتماعى، هذا المشوار استغرق دقائق اضطررت بعدها أن أتقبل أننى سوف أعيش يوما دون هاتف.
***
نظرت من شباك السيارة إلى المدينة المألوفة فرأيت تضاريس كنت نسيتها، رفعت رأسى إلى السماء بعد أن سقطت نقطة مطر على الشباك الأمامى وحاولت أن أفك شيفرة الغيوم. قلبت محطات الراديو بحثا عن أغان أحبها فتوقفت عند مجموعة فهمت لاحقا أنها من وقت مضى، وقت لم أكن أملك فيه هاتفا خاصتى. هذه ليست محاولة ساذجة لاسترجاع ماض دون وسائل حديثة للتواصل، إنما هو اكتشاف، على الأقل بالنسبة لى، أن التواصل الافتراضى يلغى كثيرا من التواصل الفعلى، يدخلنى فى تلك الشاشة الصغيرة التى تنقل لى العالم بلمسة واحدة بينما العالم نفسه يمر أمامى دون أن أراه.
***
أمامى إشارة عليها اسم قرية لم أعد أتذكر قصتها فأبحث عن هاتفى حتى أفتش عن المصادر. لا هاتف معى، سوف أسأل أحد الزملاء لاحقا عما حدث فى القرية أثناء الحرب. لم أتصل بصديقة لأهنئها بعيد ميلادها لكن لا هاتف معى، هل ذهب أولادى إلى المدرسة فى الوقت المعتاد وهل أخذوا كل كتبهم معهم؟ لماذا أسأل؟ ألا يفترض بهم أنهم فعلوا؟ هل وصلنى رد أنتظره منذ أيام على سؤال شائك يتعلق بأحد أوجه عملى؟ ربما، وكما انتظرته أياما فباستطاعته أن ينتظر قراءتى له حتى المساء. وماذا عن صديقة وعدتها أن أراها بعد الظهر؟ سوف أعتذر إذ لا هاتف معى اليوم.
***
هل كانت الحياة أسهل؟ لا أظن. هل كانت العلاقات أكثر سلاسة؟ لا أظن. هل سهل الهاتف كثرا من الأمور اليومية؟ نعم، على الأقل بالنسبة لى. هل رأيت غيوما كتلك التى اجتاحت قمة الجبل أخيرا؟ لا، لأننى غالبا ما أكون حانية رأسى باتجاه الشاشة الصغيرة عند مرور الغيمة من فوقى. وغالبا ما أكون حانية رأسى باتجاه الشاشة الصغيرة ذاتها حين تمر أمامى حلقات من حياتى وحياة من حولى. هل يشفع لى أننى التقطت نظرات وابتسامات ومواقف على هاتفى فأخزنها لأنظر إليها حين أشتاق لمن أحب؟ لماذا لم أعد أنظر إليهم وهم يبتسمون وأخزن ضحكتهم فى ذاكرتى؟ أم ترانا أصبحنا نختبئ خلف الافتراضى فنختار منه ما نريد حفظه وننسى الباقى؟ أتساءل فأرى الغيمة وهى تترك قمة الجبل، ليظهر لى جمال لم أره منذ سنوات، رغم أننى شبه متأكدة أننى حفظت يوما صورة له فى ذاكرة هاتفى.