اقتحم تطبيق الكمبيوتر المسمى شات جى.بى.تى حوارات الناس على نطاق واسع الفترة الحالية. وكلمة شات معناها دردشة، أما كلمة جى.بى.تى فهى اختصار ((Generative preــtrained transformers وتعنى محولات أولية مدربة مسبقا. واستطاع برنامج الدردشة هذا لفت انتباه الناس فى ظل عالم ملىء بالتحولات الجيو ــ سياسية الكبرى مثل الحرب الأوكرانية، والمصالحة السعودية ــ الإيرانية، وذلك بسبب ما يمكن أن يقدمه، وللتغير المتوقع من استخدامه، وآثاره المحتملة فى شتى المجالات. وانتشر البرنامج الذى يعتمد على الذكاء الاصطناعى بعد قرابة خمسة أشهر فقط على صدور الإصدار رقم 3 للبرنامج فى نوفمبر 2022. وهو أداة لغوية تعمل كتقنية إلكترونية للحوار، طورته شركة «أوبن إيه أى» ومقرها مدينة سان فرانسيسكو. ويستثمر بالشركة أقطاب كبار فى عالم التكنولوجيا، أهمهم شركة مايكروسوفت، ورجل الأعمال إيلون ماسك، وغيرهما كثيرون. وتعمل الشركة بقيادة سام أولتمان، وهو كغيره من أغلبية مستثمرى سيليكون فالى من الأقلية اليهودية، واختير من قبل مجلة فوربس عام 2015، كأفضل مستثمر تحت سن الثلاثين، وذلك بالرغم من عدم إكماله تعليمه الجامعى فى مجال الكمبيوتر بجامعة ستانفورد.
يعمل برنامج شات جى.بى.تى كتطبيق أو تقنية للحوار، يستطيع الإجابة على الأسئلة التى يطرحها المستخدم بشكل مفصل. وبوسعه تذكر الأسئلة السابقة، والبناء عليها، مما يجعل المستخدم يشعر وكأنه يتحاور مع صديق. ولكن لا يعنى ذلك بأن البرنامج يعى ما يقول، أو يدرك معانى الإجابات التى يأتيك بها. فهو مجرد أداة أو برنامج لغوى، قائم على تعيين الكلمات المفتاحية وتصنيف الجمل التى لها علاقة بتلك الكلمات، ثم إخراج الجمل فى صورة مقال مكتوب، أو حتى مقروء. ويحصل البرنامج على معلوماته من الذاكرة التى تغذى البرنامج. وتقول الشركة المنتجة للبرنامج بأن الإصدار الثالث اعتمد على معلومات مخزنة إلى عام 2021. ثم تطورت سعة التخزين، وقفزت من 175 جيجا ــ بايت من المعلومات، إلى 1 تيرا ــ بايت فى الإصدار رقم 4 الذى صدر فى 14 مارس 2023. علما بأن الشركة انتهت من تطوير الإصدار الرابع الذى يتم طرحه الآن منذ سبعة أشهر، أى فى سبتمبر 2022، قبل شهرين من إفراجها عن الإصدار رقم 3.
• • •
يقول سام أولتمان فى حوار أجرته معه شبكة إيه ــ بى ــ سى الأمريكية فى 17 مارس 2023 بأن الشركة تعرض الإصدارات على متخصصين قبل إطلاق كل نسخة، وتستفيد من آراء الخبراء فى إعادة ضبط التطبيق ليصبح أكثر ملاءمة لخدمة الأغراض التى صنع من أجلها. وعندما سألته المذيعة، هل يشبه البرنامج محركات البحث التقليدية مثل جوجل وياهو.. إلخ؟ نفى أولتمان ذلك قائلا إن التطبيق ينتج إجابات مختلفة تماما عن محركات البحث. فهو يدخل إلى مضمون السؤال ويمنح إجابات عن الأسئلة. وللتوضيح يمكن إعطاء مثال قبل استكمال كلام أولتمان. فمثلا، لو سأل أحد التطبيق، ما هو سبب تراجع سعر صرف الجنيه المصرى مقابل الدولار، فستكون إجابة النسخة الثالثة فى حدود 300 كلمة وبحد أقصى 3 آلاف كلمة. ولقد جربت هذا السؤال بنفسى، وإلى حضراتكم ملخص ما قاله البرنامج حيث طرح أربعة أسباب وراء تراجع سعر صرف الجنيه مقابل الدولار على النحو التالى، أولا التضخم، ثم العجز فى الميزان التجارى، ثم سياسات البنك المركزى الخاصة بأسعار الفائدة، ثم الاستقرار السياسى. وتحت كل بند من البنود الأربعة شرح مفصل للسبب المرتبط بانخفاض الجنيه. ويتميز الإصدار الرابع باستطاعته فعل ما هو أبعد من كتابة المقال بكثير، حيث بوسعه كتابة كتاب كامل عن الموضوع يصل إلى 25 ألف كلمة، وتوثيقه بالمصادر والمراجع، وذلك فى بضع ساعات.
وبالعودة لحوار أولتمان، طرحت عليه المذيعة سؤالا بديهيا، هل بوسع التطبيق الإجابة عن أسئلة تحمل مخاطر تهدد أمن المجتمعات، مثل الطرق المبتكرة لصنع القنابل، أو اقتحام المنازل.. إلخ من هذه النوعية؟ نفى أولتمان ذلك، وأوضح بأن التطبيق مصمم على عدم الاستجابة لهذه النوعية من الأسئلة. لكنه لم يوضح إذا كان البرنامج يعرف الإجابة بالرغم من عدم إفصاحه عنها أم لا. ثم سألته المذيعة عن السبب فى إصدار مثل هذا التطبيق الذى يهدد أنواعا كثيرة من الوظائف بأسواق العمل. وأجاب أولتمان بأن كل تقدم تكنولوجى تصاحبه أضرار، لكنه فى نفس الوقت يخلق نوعية جديدة من الوظائف، وهو ــ أولتمان ــ يؤمن بأن التطبيق يزيد من المعارف الإنسانية، ويطورها للأفضل، ويمكنه توسيع قاعدة المعلومات المشتركة، التى تخدم مختلف المجالات إذا ما أحسن استخدام البرنامج. ولم تمضِ دقائق بعد هذا الحوار حتى بحثت تلقائيا فى اليوتيوب عن أى مقابلة أخرى لأولتمان، ولكنى وجدت مقابلة للمفكر الأمريكى الشهير نعوم تشومسكى يتحدث عن برنامج شات جى.بى.تى، وملخص ما قاله المفكر، بأن هذا النوع من التطبيقات لا ينتج علما ولا معرفة، بل هو تزييف للعلم، وسطو على أفكار المؤلفين عبر تقنية لغوية إلكترونية، تنتج وعيا زائفا وتقدما وهميا. والتطبيق فى الحقيقة هو الذى ترتفع كفاءته ويحتكر إصدار المعرفة وقد يعمل كأداة لصالح من يملكها أو يسخرها. وعندما سأله المحاور كيف ينافس التعليم هذا النوع من البرامج، أجاب تشومسكى، لا بد من جعل التعليم أكثر جاذبية وإثارة للطلاب لكى لا يلجأوا لمثل هذه التطبيقات عديمة القيمة.
• • •
الشاهد، أن هذا النوع من التطبيقات له أضرار ومنافع، ولكنها لا ترتبط بما نظن أنه خطأ أو صواب، بل ترتبط بما فى مخيلة المبرمج الذى صنع البرنامج عن الخطأ والصواب. وأولتمان نفسه الذى صنعت شركته البرنامج يقول إنه يعمل مع الحكومة الأمريكية عن قرب، ويشرح لها إمكانيات البرنامج وما بوسعه أن يفعله. ولا ندرى إلى أى مدى يتعاون الطرفان فى تطوير البرنامج، ناهينا عن استخداماته المستقبلية. ويقول أولتمان بأنه يأمل أن يطور العالم، بمعنى الدول، والمنظمات الدولية المعنية، نوعا من الكود الأخلاقى والمهنى، بحيث يلتزم به أى مبرمج يعمل على تطوير تكنولوجيا من هذا النوع. وبالرغم من أن هذا الأمر بعيد المنال، ولم يتوافق عليه العالم إلى الآن فى مجال تطبيقات الإنترنت، وتطبيقات ومنصات التواصل الاجتماعى، فإننا نظن أن هذا الطرح جدير بالاهتمام، فلا بد من اتفاقية دولية تنظم ما ينتشر بالعالم الموازى، أو الافتراضى والذى توغل وأصبح له تأثير بالغ فى العالم الحقيقى يمس حياة كل الناس. وغياب هذا النوع من الاتفاق والتوافق، يجعلنا فى حالة خضوع لما ينتجه المبرمجون، وسيكون لوغاريتم البرنامج أهم من سياسات الدول، وسيتخطى تأثيره الحدود القومية، ثم على صناع السياسة التعامل مع آثار ذلك.