عندما سيصل الدين العام إلى 152 بالمائة من الناتج المحلى الإجمالى نهاية عام 2019 وعندما تكون البطالة بحدود ثلث القوة العاملة عند من هم دون الـ25 سنة من العمر، وعندما تصل نسبة من يعيش على خط الفقر أو دونه إلى 30 بالمائة فى أقل تقدير وعندما تتهاوى الطبقة المتوسطة بقوة وهى عنصر استقرار وازدهار أساسى فى أى مجتمع تصبح الهجرة عنوان الخلاص والحلم بالحياة الكريمة، وتصبح الشهادة الجامعية بمثابة فيزا أو دعوة للمغادرة، ويصبح البلد بمثابة مصنع يصدّر أبناءه المتعلمين إلى الخارج. ويصبح الوعد للجيل الواعد أمامك الرحيل عندما تنهى دراستك. فى هذا الاطار جاءت شرارة رسم الدولارات الستة شهريا على «الواتساب»، الذى هو وسيلة الاتصال الشعبية فى بلد يعانى من الكلفة المرتفعة فى الاتصالات ومعها المستوى المنخفض فى جودة الخدمات، لتشعل الانتفاضة اللبنانية. رأى الكثيرون أن هذه الانتفاضة تأخر حصولها ولكنها كانت منتظرة. ومن المفيد أخذ العبر والدروس من الانتفاضات العربية مع تلافى إسقاط أى من النماذج التى حصلت عربيا على الحالة اللبنانية، فلكل حال خصوصياتها من عناصر داخلية أساسا وأخرى خارجية مساعدة بدرجات مختلفة، تحكم مسارها بشكل كبير.
أهمية هذه الانتفاضة أنها عمّت جميع المناطق وجميع الطوائف وجميع الاتجاهات السياسية وهى انتفاضة شبابية بشكل أساسى. فالفقر والذل وانسداد الأفق والكفاح اليومى لتأمين ما يلزم وغياب الشروط الأساسية للحياة الكريمة أمور لا يمكن أن يلغيها أى عنوان هوياتى أيديولوجى أو سياسى ينتمى إليه اللبنانيون على جميع اتجاهاتهم، أيا كانت قوة أو جاذبية هذا الانتماء.
قد يجمّد هذا الانتماء السياسى بأشكاله ودرجاته المختلفة أو يؤخّر باسم مبررات أو وعود عديدة لحظة الانفجار الكبير لكنه لا يلغيها طالما لم تعالج مسبباتها فى العمق.
قد يقول البعض إن أوضاع الاقليم الشرق أوسطى الملتهبة ولبنان بتركيبته وموقعه فى الجغرافيا السياسية للمنطقة الأكثر تأثرا بهذه الأوضاع، ساهمت بالأزمة الاقتصادية، ولكن هذا جزء بسيط من المشكلة التى هى لبنانية بشكل كبير فى مسبباتها البعيدة والقريبة وفى تطورها ومسارها. فنظام قائم على ثلاثية المحسوبية والزبائنية والشخصنة فى إطار واقع سلطة فيدرالية الطوائفية السياسية المتحكّمة بإدارة الحياة السياسية والاقتصادية وغيرها، تمنع أو تشلّ محاولات التغيير والإصلاح الفعلى والفعّال. نظام يعمّق تلك الأزمات ويراكمها ويعمل على إدارتها أو احتوائها عبر لعبة المقايضات وتقاسم المنافع إلى أن تصل وقد وصلت لحظة الحقيقة، الورقة الإصلاحية التى ولدت بسرعة فائقة تحت ضغط الخوف من الانفجار الكبير والذهاب نحو المجهول كان يمكن للكثير من عناصرها أن «تولد» من قبل وتدخل حيز التنفيذ وتساهم ولو بشكل جزئى واستباقى فى معالجة الأزمة التى انفجرت.
الورقة تحمل عناوين بعضها علاج موقّت مثل خفض العجز بحدود 3,4 مليار دولار فى موازنة السنة القادمة عبر المصارف والمصرف المركزى ومنع ضرائب جديدة. والهدف أن يكون العجز بحدود 0,6 بالمائة والمنتظر وصوله إلى 9 بالمائة نهاية هذا العام. كما تهدف الورقة إلى الخصخصة فى بعض القطاعات وخاصة قطاع الاتصالات وهى أمور بحاجة للوقت لتنظيم علاقة الشراكة بين «العام» و«الخاص» إلى جانب تخفيض النفقات فى مجالات مختلفة، وفى الشأن الاجتماعى دعم الأسر الأكثر فقرا وتوفير قروض سكنية. حلول ووعود متأخرة، جزئية أو متجزأة بعضها مؤقت ولكن كلها ضرورية ولو غير كافية.
ما العمل فيما إذا تم النجاح فى وقف النزيف فى الجسد اللبنانى؟
أولا: هنالك توافق دولى حول منع غرق السفينة اللبنانية ودعم مشروع الإصلاح المطلوب كشرط ضرورى ولكن بالطبع غير كاف للإنقاذ. توافق دولى سببه خوف مشترك بين الخصوم (اللاعبين الدوليين والإقليميين) على أن الجميع سيدفع ثمن الانفجار فيما لو حصل، فى أوقات وأشكال مختلفة، وذلك بعيدا عن تبادل التهم بالتسييس لأهداف تتخطى الحراك وربط ذلك باستراتيجيات المواجهة فى الإقليم الشرق أوسطى، وهذا وضع يمكن البناء عليه لإطلاق قطار الإصلاح الشامل والضرورى سواء تم تغيير جزئى فى الحكومة أو تغيير «شكلى» للحكومة.
ثانيا: نحن أمام لحظة مفصلية بحاجة لأكثر من معالجات جزئية ومرحلية ومؤقتة. نحن بحاجة لبلورة رؤية جديدة مختلفة عن النموذج الاقتصادى والاجتماعى المفلس، كما أشار إلى ذلك أيضا تقرير للبنك الدولى منذ سنوات ثلاثة، نحن بحاجة لبناء نموذج اقتصاد منتج فى قطاعى الصناعة والزراعة وليس فقط اقتصاد خدمات أيا كانت أهمية هذا القطاع ودوره تاريخيا فى لبنان.
اقتصاد منتج يسمح بتنمية جميع المناطق الريفية ومناطق الأطراف بشكل خاص ويوفر نوعا من الانعاش المناطقى المطلوب ويحفظ التوازن الديموغرافى والبيئى من خلال عمل الناس وبقائهم فى مناطقهم بدل النزوح نحو المدينة أو العاصمة بشكل خاص.
ثالثا: ذلك كله يستدعى بلورة حوار وطنى يشارك فيه أهل القرار والاختصاص والخبرة فى جميع المجالات للخروج برؤية جديدة مختلفة حول النموذج المطلوب.
رؤية تستدعى بلورتها فى سياسات عامة العمل على بناء دولة المؤسسات على حساب دويلات الأمر الواقع الطائفى أيا كان الغطاء الذى تتغطى به. دولة تقوم على الشفافية والمساءلة وليس على المحسوبيات. دولة تقوم على الحوكمة الجيدة الشرط الضرورى للتنمية الوطنية الشاملة ولإعادة بناء الدولة اللبنانية، دولة المواطنة، عشية الذكرى المئوية لتأسيس دولة لبنان الكبير. فهل نكون على مستوى التحدى، مسئولين ومواطنين، الذى طرحته هذه الانتفاضة الوطنية الجامعة.