يقولون عنا مواليد الجيل إكس Generation X، وهم مواليد الفترة من أوائل الستينيات إلى أوائل الثمانينيات. نحن جيل له تجربة حياتية مشتركة وخاصة فى مصر. ربما يكون من أهم تجاربنا المشتركة هى الأعمال الفنية التى تربينا عليها. قد لا يخلو حديث بين أبناء هذا الجيل فى مصر من قفشات «مدرسة المشاغبين» و«العيال كبرت» وغيرها من الأعمال الفنية من عمالقة الفن والأدب صلاح جاهين ويوسف السباعى وإحسان عبدالقدوس الخ. ومن أقرب هذه الأعمال إلى قلبى فيلم «٤ــ٢ــ٤» للمبدع سمير غانم. قد يبدو الفيلم للوهلة الأولى أقرب لأفلام المقاولات فى الشكل ولكنه فى الحقيقة مقتبس عن رواية إيطالية تعكس جنون هذا الجيل بكرة القدم وتحولها للعبة متوحشة الشعبية ومنتجة ومستنفدة للأموال فى نفس الوقت. النسخة المصرية جمعت كوكبة من ألمع نجوم التمثيل والكوميديا والغناء وقفشات الفيلم تعيش معنا حتى اليوم. يحكى الفيلم عن منصور الفلاح القروى ــ والذى جسد شخصيته ببراعة وخفة ظل الفنان يونس شلبى ــ الذى ورث عن والده مصنعا ملحق به فريق لكرة القدم يتنافس فى الدورى العام وعبر مجموعة من المفارقات تضمنت نزوله شخصيا للعب المباريات ينتهى به الحال لفشل ذريع للفريق والمصنع. فى المشاهد الأخيرة للفيلم يأتى مدرب الفريق السابق لمنصور لينقذه بفريق الشباب الذى دربه حتى أصبح فى مستوى يسمح له بمنافسة الفرق الكبرى.
ما أحوجنا اليوم لفريق الشباب هذا. فبينما تقوم الدولة بمشاريعها العملاقة والمدن الجديدة باستثماراتها الكبيرة، لماذا لا نضع جزءا من رهاننا على المستقبل فى أيدى الشباب؟ أتذكر أننى كنت أتحدث مع صديق لى خريج أعرق الجامعات الإنجليزية المتخصصة فى مجال التنمية العمرانية وكان يكلمنى عن الفرص الهائلة فى المدن الجديدة على سواحل البحر الأحمر فى رأس غارب وسهل حشيش وسفاجة وغيرها وكلمنى أيضا عن رؤيته أنه يرى خسارة فى أن يتم تطوير كل هذه المدن بنفس الطريقة المعتادة من فنادق ومنتجعات ومنازل، ويرى أنه لابد من تطوير منطقة واحدة ــ على الأقل ــ من هذه المناطق الجديدة بأسلوب مختلف. وتحول الحوار لمباراة تنس تنموية / اقتصادية حيث تخيلنا أن يتم تطوير إحدى هذه المدن لتكون حاضنة للشركات الجديدة وللأبحاث والتطوير التكنولوجى مثل وادى السيليكون الأمريكى وما شابهه من مدن مثيلة حول العالم.
لماذا لا يكون لدينا مطور عمرانى هدفه تنموى وليس الربح من التنمية العقارية. الربح من التنمية العقارية سوف يأتى بالتأكيد بالتبعية وقد يكون أضعاف ما نراه اليوم اذا نجح المشروع ولكن الهدف الرئيسى سيكون خلق مناخ صحى ومهيأ للشباب والمبدعين من كل الأعمار للعمل والإبداع فى مجالاتهم. فلنتخيل مثلا أن يخصص هذا المطور منطقة لشركات الطاقة المتجددة. مصر من أغنى دول العالم فى الطاقة المتجددة وهناك الكثير من الشركات التى تعمل اليوم على نشر استخدام هذه التكنولوجيا؛ وخاصة الطاقة الشمسية. ولكن فى رأيى هذا لا يكفى، مصر يجب أن تكون رائدة فى مجال أبحاث الطاقة الشمسية لأنها من أكثر الدول المؤهلة لذلك. فأين يمكن أن نجد مكانا أفضل من شرق مصر لأبحاث خفض تكاليف إنتاج الطاقة الشمسية وتطوير استخداماتها فى العالم؟ وقد يرى هذا المطور أيضا تخصيص منطقة لأبحاث البطاريات والسيارات الكهربائية والذكاء الاصطناعى. أكبر شركات فى العالم اليوم تزيد من ميزانياتها لأبحاث السيارات ذاتية القيادة ويتم التطبيق حاليا فى نطاق مدن صغيرة. لماذا لا تكون هذه المدينة من ضمنها وتكون أول مدينة مصرية بها سيارات ذاتية القيادة؟ ومن الممكن تخصيص مناطق أخرى للتكنولوجيا المالية Fintech وتطبيقات التكنولوجية عامة لا تحتاج لتواجد فى المدن الكبرى ومن الممكن إدارتها عن بعد فهى عادة تعتمد على تطبيق وفريق عمل خلف التطبيق Backoffice. ولنترك هذه المدينة تعمل وتفرض ديناميكيتها لتفاجئنا بما سوف تخرج لنا به من إبداع واتجاهات استثمارية قد لا نتصورها الآن.
أتخيل أن هذه المدينة يجب أن يكون لديها مكاتب حكومية خاصة بها لتسهيل عمل هذه الشركات من حيث التراخيص والضرائب والتأمينات وخلافه. يكون مستوى الخدمة فيها مماثلا لمستوى الخدمة فى مكتب ضرائب كبار العملاء وتكون مهمتها تيسير بيئة العمل لترك مساحة كافية للشركات العاملة هناك للابداع وخلق الفرص. وأتخيل أيضا حى بنوك صغيرا تغلب عليه المعاملات الإلكترونية وليست الورقية، ومكتبا جمركيا ينهى اجراءات الاستيراد فى سهولة ويسر وفى أجواء متعاونة مثل المبادرة الأخيرة للإسراع من الافراجات الجمركية لمن هم فى القائمة البيضاء.
إذا نجحنا فى خلق هذه البيئة فسوف تتحول هذه المدينة إلى قبلة لمبدعين يأتون من جميع أنحاء العالم للعمل والإنتاج. شعرت بالغيرة عندما زرت دبى أخيرا ووجدت شبابا من كل الجنسيات يروجون لأعمالهم. أوروبيون يأتون من أكثر الدول تقدما للعمل فى دبى والقيام بمغامرتهم فى دنيا الأعمال. بالطبع دولة الامارات هى أحد مراكز رءوس الأموال ولكنها كانت دائما كذلك. الذى تغير هو أنهم نجحوا فى خلق بيئة مناسبة لرواد الأعمال للعمل والازدهار. منظومة متكاملة، جانب منها هو رءوس الأموال ولكن الأهم هو هذه البيئة التى تساعد على الإبداع. كل أسبوع مؤتمر يحضره ممثلون عن الحكومة من أعلى مستوى. صديق لى رئيس شركة عربية كبرى قال لى إن أجمل ما فى حكومة الإمارات هو أنهم يستمعون لنا، أى مجتمع الأعمال. هو لا يقصد أن غيرهم لا يستمعون ولكن عدد اللقاءات أكثر ولذلك فالفرصة أكبر فى أن تستجيب الحكومة لمظالم رجال ورواد الأعمال وتجد حلولا لها. أظن أن هذا هو أهم ما يميز الإمارات اليوم. نجاح مثل هذا المشروع معناه أن عبء جذب رءوس الأموال الأجنبية سينتقل من الحكومة للمواطن. أصحاب الأعمال سيكون لزاما عليهم أن يقدموا أفضل ما لديهم لجذب مستثمرين لمشاريعهم من جميع أنحاء العالم. نحن نستطيع. بل أكثر من ذلك، أتخيل أنه إذا سنت الحكومة قانونا لمثل هذه المنطقة ووضعت تصورا، فأنا أراهن على قدرة القطاع الخاص على التنفيذ وتحمل الاستثمارات بالكامل دون أن تتحمل الدولة أى أعباء. المصريون بالفعل قادرون.
فى آخر فيلم «٤ــ٢ــ٤» وبعد فوز فريق الشباب بالمباراة ذهب منصور صاحب النادى ليهنئهم وفوجئ بأنهم يقولون له إنهم أيضا لهم مطالب مثل الفريق الذى دمر النادى من قبلهم فأغمى عليه. أظن أن الحال سيكون مختلفا هنا، فإذا قدمنا للشباب والمبدعين من كل الأعمار فرصة أن يكون لديهم منطقة، أو مدينة أو منتجع يعمرونه ويطلقون فيه ابداعاتهم فسنكون بذلك وفرنا لهم أهم مطالبهم وهو المناخ المناسب للانطلاق. مثل الجونة، التى بدأت صغيرة وكبرت على مدى ثلاثين سنة. أتخيل أننا اذا أدرناها جيدا فقد تكبر أسرع بكثير مما نحلم وقد تحقق طفرة نوعية فى حجم وجودة اقتصادنا. أتخيل أننا بعد عشرين سنة قد نكون نحن من نذهب لهؤلاء الشباب ونطلب منهم تمهيد الطريق لمن يأتون بعدهم بمشروع مماثل.