فى خلال أسبوع واحد فقط عرفت بانتحار اثنين من الدوائر المحيطة بى، سيدة كانت تساعد الناس في البيوت وآخر كان موظفًا من متوسطي الحال، انتحرا لضيق ذات اليد والعجز عن إعالة أسرتيهما في ظل ظروف اقتصادية صعبة تمر بها البلاد. الخبران المتزامنان تقريبا أعادا إليّ مشاعر الصدمة والحزن التي كانت قد انتابتني حينما توفي زميل الدراسة عبد الحميد شتا قبل نحو 15 عاما، وهو الشاب الذي أقدم على الانتحار فى نيل القاهرة بعد أن تم رفضه في مسابقة التمثيل التجاري، والذي كان قد أقام في غرفة واحدة معي في أحد برامج التبادل الشبابي في دولة تونس قبلها بعام! وقت حادثة عبد الحميد لم أتمكن من الكتابة عنه أو التوعية بخطورة قضيته، وللحق فإن وفاته أحدثت ضجة قومية ربما مازال يتذكرها البعض إلى الآن.
بعد وفاة عبد الحميد بأسابيع ذهبت للدراسة في دولة اليابان وهي واحدة من الدول التي تشهد أعلى معدلات الانتحار في العالم لأسباب مختلفة، وكان عليّ أن أتعامل من وقت لآخر مع حوادث اصطدم بها مباشرة حين أتوجه لاستخدام خطوط مترو الأنفاق في طوكيو وأعلم أن الخط متعطل بسبب أن أحدهم قد ألقى بنفسه أمام القطار منتحرا! وقتها تعلمت أن هناك حملات قومية ومجتمعية لمواجهة الانتحار، وأن هناك العديد من الخطوط الساخنة التي يمكنها مساعدة هؤلاء الذين يفكرون في الانتحار قبل الإقدام على هذه الخطوة، وهناك حملات مشابهة تتولاها جهات حكومية بالتعاون مع أخرى غير حكومية في الولايات المتحدة وأوروبا لمواجهة هذه الظاهرة المؤلمة.
بمراجعة حالات الدول العربية، لم أتمكن سوى من التوصل إلى حملة ضد الانتحار في لبنان تم تدشينها بواسطة الجامعة الأمريكية في بيروت عام 2015 اسمها «أكيد رح فيق»، وغير ذلك لم أتمكن من التوصل إلى أي معلومات دقيقة لحملات مشابهة في دول عربية أخرى.
لا أعلم إن كان لدينا إحصاءات دقيقة عن الموضوع، لكن موقع «اليوم السابع» كان قد نشر تحقيقا للأستاذة «فاطمة شوقي» في سبتمبر 2015 يقول إن مصر تأتي خامسة بين الدول العربية على مستوى "محاولات الانتحار أو الرغبة في الموت" للشباب دون الأربعين عاما بثلاثة آلاف حالة (بين راغب أو محاول للانتحار) سنويا، بعد دول سوريا والمغرب والجزائر وتونس. لكن تقريرا آخر لموقع الـ«بي بي سي» العربية والذي نشر قبل أسبوع بالضبط من تقرير «اليوم السابع» قد شكك في دقة الأرقام في مصر كون أن الموضوع يخضع للكثير من الاعتبارات الدينية والاجتماعية والأمنية التي لا تجعل التصريح بالرغبة في الانتحار أمرا سهلا في مصر أو العالم العربي.
•••
معظم المقالات التي كُتبت عن الموضوع في مصر تحديدا أشارت إلى أن زيادة حالات الانتحار في مصر يرجع إلى الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تجعل الإنسان يفشل حتى فى أن ينظر إلى أولاده لأنه لم يعد قادرا على الوفاء بأي التزام! لست متخصصا سواء فى العمل الخيرى أو التطوعي أو التوعوي لكني قد عرضت الموضوع على صفحتى على موقع «الفيس بوك» وتلقيت العديد من الإقتراحات من الأصدقاء والمتابعين لمواجهة هذه الظاهرة والتي يمكن إيجازها فيما يلى:
أولا: على الحكومة أن تقوم بثلاثة أدوار متشابكة فى هذا الإطار، فعليها أولا العمل على ضبط الأسعار فى الأسواق وتوفير السلع الأساسية من خلال المجمعات الاستهلاكية، وبالتوازى مع ذلك فعليها أيضا القيام بالتعاون مع مؤسسات المجتمع المدنى والمؤسسات الأكاديمية للإشراف على حملة قومية مصرية ضد الانتحار (انظر النقطة السادسة)، وعليها ثالثا أن تدقق كثيرا قبل الإقدام على تجميد أي أموال إلا لو ثبت فعليا أنها تستخدم لأغراض تمويل العمليات الإرهابية، لأن التوسع في هذا الشأن لمجرد الشك أو الاشتباه يعقد الموقف ولا يحله وقد يضر من لا علاقة له بالعنف أو بالإرهاب.
ثانيا: على المؤسسات الدينية أيضا أن تقوم بثلاثة أدوار متداخلة، الدور الأول هو تكثيف عظاتها وخطبها لحث الناس على التكاتف الاجتماعى والصدقات والتبرعات والهبات، على أن تقوم المؤسسات الدينية بمراجعة دورية دقيقة للحالات المحتاجة مع توسيع دائرة البحث حتى بين الطبقات المتوسطة لأن هؤلاء سيكون من الصعب عليهم أن يطلبوا صراحة الصدقة أو المساعدة. كما أن عليهم ثانيا أن يعيدوا أولويات الصرف، فالمسؤولية الاجتماعية للمساجد والكنائس في مصر في ظل هذه الظروف تحتم عليهم الابتعاد عن نفقات لا لزوم لها كتجديد دورات المياه أو طلاء الجدران أو شراء مكيفات الهواء للصيف، لابد وأن توجه كل الأموال المخصصة لهذه الرفاهيات نحو الناس فهذا أبقي وأنفع. وأن تقوم ثالثا بحث الناس على التمسك بالحياة والأمل والثقة في الله وأن تبتعد عن أساليب التكفير والتوعد بنار جهنم للمنتحرين لأن من شأن هذه الغلظة أن تزيد من المشكلة ولا تحلها.
•••
ثالثا: على الأشخاص «المستورين» المنتمين للطبقات المتوسطة فيما أعلى البحث في المحيطين بهم ممن قد يتعففوا عن طلب المساعدات ومحاولة مساعدتهم سواء بطرق مباشرة أو غير مباشرة مع العودة إلى التهادي بالفاكهة والزيت والسكر وما تيسر من أساسيات الحياة بدلا من التهادي بما لا طائل منه في هذه الظروف الصعبة.
رابعا: على المواطنين المصريين المتدينين تكثيف التبرعات والصدقات للجوامع أو الكنائس القريبة منهم، أما المواطنون غير المتدينين أو الذين لديهم تحفظات على منظومة الزكاة والصدقات وما شابه فقد يقوموا بالتبرع للجهات الخيرية المعروفة والمسجلة في وزارة التضامن الاجتماعى.
خامسا: على من يمتهنون مهن لها تأثير مباشر على جيوب المصريين (كالأطباء والمدرسين)، تقديم ولو جزء يسير من وقتهم (من 6 إلى 8 ساعات أسبوعيا) في شكل خدمة مجانية أو مخفضة (دروس خصوصية وكشف طبي) للمواطنين ذوي الحاجة.
•••
سادسا: لابد من التفكير فى إنشاء شبكة للانقاذ السريع تمثل تعاونا بين مؤسسات الدولة (وزارة التضامن الاجتماعى مثلا) مع بعض المؤسسات الأكاديمية التى لها خبرة في العمل المجتمعي (جامعة القاهرة أو الجامعة الأمريكية)، بالتعاون مع الأحياء والشوارع (اتحاد الملاك) والمساجد والكنائس والمؤسسات الخيرية على المستويين القومي والمحلي لعمل مبادرات تنموية لتعليم الناس الشراء والبيع من المنابع لتقليل هوامش الربح، إقامة معارض للسلع منخفضة التكلفة، صناديق للتبرعات والدعم السريع مع العودة لفكرة الجمعيات الشهرية...الخ، مع الضرورة القصوى لإنشاء خط ساخن آمن لمساعدة الذين يفكرون في الانتحار على مقاومة تلك الرغبة.
سابعا: على كل العاملين في الحقل الإعلامي (مذيعين، معدين، صحافيين) الإكثار من التحقيقات الإعلامية المكتوبة والمقروءة والمسموعة عن الجهات الخيرية أو التي تقدم سلعًا أو خدمات مخفضة، كما أن برامج «التوك شو» الشهيرة عليها أن تتبنى حملات منتظمة للتبرعات والمساعدة المجتمعية على غرار التجربة الناجحة لبرنامج «كل يوم» على فضائية «أون أي On E».
ثامنًا: على المواطنين ميسوري الحال زيادة الدعم والمساعدة المجتمعية لكل المحيطين بهم وخصوصا لمن يقدمون بعض الخدمات لهم، كما عليهم تجنب التصرفات الاستهلاكية الابتزازية كلما كان ذلك ممكنا، مع التركيز على السياحة الداخلية لدعم قطاع السياحة المصرى الذي يحتاج وبشدة إلى هذا الدعم.
•••
هذه مجرد مجموعة من الأفكار العامة التي تعبر عن حصيلة نقاشى مع الأصدقاء، هناك المزيد من الأفكار التي أريد التحقق منها أولا وأخرى أريد أن أتوسع في قراءتها قبل عرضها هنا. وأرحب بأي تعليقات للتصويب أو التجويد والإضافة من القراء على بريدي الإلكتروني الشخصي abdraboh2004@yahoo.com من خلال رسالة تحمل عنوان «معا ضد الانتحار» لسهولة قراءتها وسوف أقوم بالردود المنتظمة على أصحاب هذه الرسائل يوم الجمعة من كل أسبوع، إلى أن أتمكن من بلورة مجموعة من الأفكار الأكثر تماسكا وسوف أعود إلى الموضوع في القريب العاجل حينما يتوافر لدي المزيد من الأفكار والاقتراحات التي تساعد في مواجهة هذه الظروف الصعبة. ونسأل الله الأمل والستر وأن ينزل المزيد من الإنسانية والإحساس على البشر.