فى ندوة نظمتها لجنة العمارة فى المجلس الأعلى للثقافة، فى مناسبة حلقة نقاشية حول مشاركات مصر السابقة فى البينالى منذ عدة سنوات كان سؤالى لماذا يجب على مصر المشاركة فى بينالى فينيسيا؟ كان مضمون الجواب أن مصر من مؤسسى هذا المحفل الدولى ولها مبنى خاص بها يجب أن نشغله ولم تقنعنى أبدا هذه الإجابة لأنها لم ترد على ما قصدته من تحديد الفائدة التى تقع على مصر ومجتمعها العام والمعمارى بصفة خاصة من تلك المشاركة، والتى تتطلب الكثير من العمل والنقاش من قبل المسئولين عن المشاركة فى هذا المعرض الدولى الذى ينظم كل عامين للعمارة. وقمت بتحويله لسؤال ذاتى عن لو كنا سنشارك فى كل الأحوال فكيف يمكن أن تكون تلك المشاركة وما هى الفائدة منها. وانتهزت فرصة المسابقة التى تقام كل سنتين لاختيار العمل المصرى المشارك لكى أستكشف التصور الذى يمكن أن يجيب على سؤالى.
فى بينالى 2016 والذى أعطاه القيمة فى ذلك العام المعمارى الشيلى الشهير أليخاندرو ارافينا عنوان «البلاغ من الجبهة» وشرح فيه ارافينا كيف أن جوهر نضال العمارة لتحسين حال المواطنين يتعامل مع الهم والمعاناة الإنسانية فى إطار لا يتنكر لقيم العمارة النبيلة أى بين التزام المعمارى بقضايا المجتمع والصالح العام فى مقابل ما يريده أو يسعى إليه العميل.
وكان اقتراحى أنا والفريق الشاب العامل معى أن نحوّل الجناح المصرى إلى «أرض الاختبارات» أى تحويل الفضاء الداخلى لمبنى الجناح إلى مكان لاختبار المقترحات المعمارية والعمرانية وعرضها للتأمل والتفكير والنقد وتحويله ساحة للنقاشات التى تهم المجتمع والمدينة فى مصر. ومع نهاية المعرض يتم تفكيكه ونقله إلى مصر مرة أخرى لكى يكون ساحة أو أرضا لاختبار تلك الأفكار وربما أفكار أخرى مستقبلية توضع فى مكان يتم اختياره بحيث يكون متاحا للعامة. كان الاقتراح يتمثل فى بناء خارطة لمدينة القاهرة بمقياس 1:500 وعلى أجزاء منها مجسمات بعض المشروعات التى يراد اختبارها.
***
بعد عامين من المشاكسة الأولى أقيمت مسابقة اختيار العمل المشارك فى بينالى 2018 والمعنون «الفضالحر» وهى كلمة واحدة كما أرادت المقيمتان على المعرض ايفون فاريل وشيلى ماكنمارا. وبالنسبة لهما «الفضالحر يشجع مراجعة طرق تفكيرنا وإيجاد طرق جديدة لرؤية العالم، وتمكن من اختراع حلول معمارية توفر الكرامة والجودة لكل مواطن على هذا الكوكب الهش»، «إن غياب العمارة (الجيدة) يجعل العالم أشد فقرا ويقزم من مستوى الرفاهية الجماعية». وتتناول هذه الدعوة من المفاهيم الغنية، فهى مثلا تتناول حيز الديموقراطية كما تتناول فكرة المسئولية الممتدة للمعمارية أو المعمارى وهى تتناول العلاقة المثيرة التى يخلقها الفضالحر والطبيعة وهباتها من خلال الخيال الإنسانى.
استجابتنا كانت اقتراح ما سميناه مستكشف الفضاء. وهو ترجمة لمكان يستلهم تشكيله من المعابد المصرية المبنية من مادة الغاب أو ما يعرف بالبوص على شاطئ النهر والتى لعبت دورا جوهريا فى تطور الحضارة المصرية. ويستلهم طريقة فك وتجميع مراكب الشمس المصرية بحيث يمكن فك وتجميع المنشأ المقترح عدة مرات تمكنه بعد انتهاء دورة العرض فى فينسيا من العودة لمصر والتجوال عبر البيئات المصرية المختلفة. وهو فى تجواله سيوفر أماكن للراحة والتأمل فى هبات الطبيعة بصورة تتيح للمواطنين والبشر المختلفين رؤية العالم من حولهم بشكل يساعد فى فهم التحديات التى تواجهها استمرارية هذه البيئات والتى تعد قضية معمارية وإنسانية أيضا لنا.
***
أما المشاكسة الأحدث فى سياق اختيار المشاركة المصرية فى بينالى 2020 فقد طرح القائم على تلك الدورة المعمارى اللبنانى هاشم سركيس سؤالا هو العنوان والقضية وهو «كيف سنعيش معا فى المستقبل».
استجابتنا هذه المرة اعتمدت على بحث ومجموعة مقترحات أولية نعمل على تطويرها منذ عدة سنوات وتتبنى فهم أن الطبيعة والحفاظ عليها هى الأساس لأى محاولة معمارية لربط الناس معا وتقريبهم من الآخرين وتطوير رؤى لمستقبل لائق ومستدام للمصريين وللآخرين من خلال موازنة احتياجاتنا مع الموارد المحدودة والمتجددة الموجودة فى عالمنا.
تضمن العرض المقترح نماذج من المقترحات من المناطق الثلاث التى تناولناها عبر السنوات القليلة الماضية، وهى برج رشيد ومحيطها الممتد من البحر المتوسط شمالا وغربا ونهر النيل شرقا ومدينة القصير الواقعة على البحر الأحمر، وتقع المنطقة الثالثة فى ميت رهينة وما حولها مباشرة فى أقصى جنوب مدينة القاهرة.
تشترك المناطق الثلاث فى أنها تحتوى على مبان أثرية ترجع فى اثنين منهما على الأقل لآلاف السنين. ووجهة نظرنا أننا لن نستطيع الحفاظ على تلك المبانى بدون الاهتمام بسكان تلك المناطق أولا وإعطاء الأولوية اللازمة للتعامل مع الموارد الطبيعية المحلية. فى المقترحات الثلاثة نركز على طريق واحد يمثل الفراغ العام فى تلك المنطقة والمكان الذى يتقابل فيه الناس فى كل منطقة كما نركز على الماء كقضية أساسية.
الهدف الأساسى هو مناقشة إمكانية تصور مستقبل بديل أكثر استدامة ويستوعب الجميع فى مناطق مختلفة من مصر. وفى قلب هذا التصور دور وظهور جديد للعمارة كاستجابة ذكية للتحديات البيئية والاقتصادية والاجتماعية. وكمساهمة ممكنة من مصر فى مواجهة تحدى التغير المناخى الذى يواجه جميع البشر.
فى برج رشيد عرضنا طريق الماء والطعام وهو طريق يجمع بين الحفاظ على الماء وإنتاج الطعام. وهذا الطريق يستخدم ابتكارا محليا (مبنيا على فكرة لعَالِم أمريكى) لمعالجة مياه الصرف بصورة مستدامة باستخدام نباتات مائية طافية مثل نبات اللوتس وينتج عن المقترح تحول كبير لعمارة الفراغ العام.
فى ميت رهينة الطريق يجمع بين الحفاظ على الماء والمساعدة فى تحسين التعليم للأطفال فى المجتمع المحلى. ويقترح المشروع إدخال نظام لا مركزى لمعالجة الصرف فى المدرسة، ما يوفر جزءا كبيرا من احتياجات الماء، بالإضافة إلى تحسين الوضع الصحى للتلاميذ. كما يقترح المشروع إدماج وحدات لتوليد الطاقة الشمسية تُستخدم فى تشغيل الحاسبات الآلية للتلاميذ أثناء اليوم (دون الحاجة لبطاريات أو محول)، كما يقترح عمل صوبة زجاجية لإنتاج جزء من الخضراوات الطازجة التى يحتاجها التلاميذ يوميا لتحسين صحتهم ولتوجيههم لأهمية الغذاء السليم لصحة عقولهم. كما يتم عمل وحدات معالجة لمياه الصرف الزراعى بجوار المصرف المجاور للمدرسة، بالإضافة إلى وضع النباتات المائية الطافية فى المصرف لمعالجة مياهه وبذلك يمكن إعادة استخدامها فى الرى.
أما فى القصير فقد اقترحنا استخدام أحد الطرق غير المستعملة الآن فى أرض مصنع الفوسفات كطريق يجمع بين إنتاج الماء باستخدام ابتكار محلى وباستخدام الطاقة الشمسية. ويوفر الشجر المزروع ظلا كافيا لراكبى الدراجات والمشاة، كما يعمل مع أشجار أخرى على مقاومة الآثار المتوقعة للتغير المناخى على جودة الهواء فى المستقبل فى هذه المنطقة الصحراوية. وعلى امتداد الطريق يقترح إعادة استخدام الحاويات من ميناء سفاجا القريب فى عمل منطقة تجارية وصناعية. كما يقترح استخدام المبانى القائمة المهملة كأماكن للإنتاج غير الملوث للبيئة. وبعد انتهاء المعرض فى فينيسيا يقترح المشروع إعادة كل مجسم ومعروضات خاصة بكل منطقتها فى صورة معرض عام لمجتمع المنطقة والمهتمين لإطلاق نقاش جاد حول المستقبل المستدام والحياة اللائقة لأفراد المجتمع المحلى.
الخطة الرئيسية للثلاثة مقترحات للمشروع هو استخدام بينالى فينسيا كفرصة للتجربة ومعرفة رأى الجمهور من أنحاء العالم ولكنه يستهدف أصلا المصريات والمصريين ويحاول أن يخلق من خلال العمارة هذه الوصلة المفتقدة بين المجتمع والطبيعة لفائدة ومصلحة الاثنين. جوهر محاولاتنا هو استخدام بينالى فينيسيا كمنصة جادة لإثارة قضايا هامة للمجتمع ككل وليست للمعماريين فقط وأن يكون البينالى بداية لنقاش نستخدم فيه المنصات الأجنبية لمصلحتنا بدلا من العكس مما يعيدنى للتساؤل الأولى «ما الفائدة من المشاركة المصرية فى بينالى فينيسيا»، وكيف يمكن تقييم الفائدة من تلك المشاركة علينا كمجتمع أولا وكمعماريين وعمرانيين ثانيا.