أصابها الشلل، لم تستطع الحركة ولا الذهاب إلى الحمام، كانت ابنة عمها تسكن قريبا منها فكانت تأتيها يوميا تنظفها وتساعدها على الاستحمام، تمشط شعرها، تطبخ الطعام لها ولزوجها المسن، ترتب منزلهم، وتجعل أولادها يخدمونهما فى أى طلبات أخرى من الشارع.
هذه السيدة القعيدة لها أولاد ولكن هذه المرأة وأولادها أكثر وفاء، ظلت 11 عاما دون انقطاع ورغم أنها فقيرة إلا أنها لم تفتح ثلاجتهم يوما حتى يخرجوا هم الطعام الذى يحتاج للتجهيز.
عندما ماتت الزوجة القعيدة ظلت تقوم بهذه المسئوليات مع زوجها المسن الذى اعتبرته مثل والدها، أما ابنه الذى لم يكن له هم سوى الرغبة فى الاستيلاء على معاش والده بالكامل وعدم مساعدة والده فى أى شىء مع أن أولاد هذه السيدة هم الذين يذهبون به إلى المستشفى كلما اشتد به المرض.
هذه صورة من صور التراحم فى المجتمع المصرى الزاخر بهذه النماذج الفذة ولعل مثل هذه النماذج الرائعة هى التى جعلت المفكر العظيم د/عبدالوهاب المسيرى يكفر بفكر الحداثة ومجتمع الحداثة الذى يقوم على «خذ وهات» «مصلحتى ومصلحتك» أو«نمط التعاقد» أو«الفكر التعاقدى» والذى يقوم أصلا على المادية البحتة و«المصلحية المجردة».
عرف البعض الحداثة بأنها «التخلى عن العلاقات الأولية مثل علاقات القرابة والانتماء للقبيلة والدين» وهؤلاء يعتبرون التراحم فكرا تقليديا عقيما ينبغى هجره، حتى رابطة الزواج يرفضونها ليتحول من إطار شرعى وقانونى منضبط إلى علاقة «منح لذة مقابل لذة».
وهذه الحداثة الغربية التى أراد بعض مفكرينا قصيرى النظر التشدق بها ترى أن الأمومة لا تتفق مع التعاقد لأنها عطاء ورحمة بلا حدود ولذلك وقع فى بعض بلاد الغرب ازدراء الأمومة والعزوف عن الإنجاب أو الزواج الشرعى القانونى.
كل ذلك جعل د/ المسيرى يعظم مجتمع التراحم الذى ضربنا له المثال الأول الذى أعرف أبطاله الذين يسكنون بالقرب من عيادتى، ورأيته فى آلاف النماذج التى عشت بعض فصولها بنفسى، فما من شاب مصرى يرى امرأة تحمل كرتونة أو شنطة على رأسها إلا واندفع بحماس يحملها عنها.
وكانت أمى تحكى لى ذلك دوما كلما سافرت للقاهرة، وكانت جدتى تتاجر فى الغلال بعد موت والدها التاجر فتأتيها المرأة الفقيرة باكية: ليس عند أولادى طعام، فتقول لها خذى كيلة قمح هدية، وظلت تفعل مثل ذلك حتى أفلست.
تراحم الشعب المصرى وشعوب العرب التى تربت على التواصل والتراحم من الدين والعرف هو الذى جعل د/المسيرى يدشن نظرية مفادها «مجتمع التراحم أتقى وأطهر وأبقى وأسمى من مجتمع التعاقد الحداثى».
ويضرب لذلك أمثلة شهيرة معروفة عنه وهى «نقطة العريس» فى الأفراح المصرية والتى لولاها ما استطاع أحد سداد بعض ما عليه من نفقات الزواج.
وكذلك قصته مع عامل النظافة الذى كان ينظف له منزله بالسعودية والذى كان يصر فى كل مرة على قوله عند استلام الأجر أسبوعيا «بلاش يابيه خليها علىَّ هذه المرة» وكذلك الحلاق الذى يقول مثل ذلك ولا ينظر للمبلغ، وكأنه يقول للمسيرى «رغم أننى أعمل خادما عندك وأدخل معك فى علاقة تعاقدية إلا أننا من الناحية الإنسانية متساويان وندخل فى علاقة تراحم، لى عندك ولك عندى، وليس مجرد خدمة مقابل نقود، يمكنك تأجيل الدفع الآن».
وهذا يحدث فى كل إيجارات الشقق للفقراء فقد يؤخر المالك المستأجر عدة أشهر، وقد يتنازل له عن بعضه، وقد يدفع الجيران بضعة أشهر للمستأجر الفقير، أو يتركه يسكن دائما بلا مقابل كما رأيت مرارا فى حياتى مع أرامل، ومعوقين.
ويثمن المسيرى عدم فتح المصرى للهدية وقبولها مغلقة كما هى، حتى لا تتحول من قيمة معنوية تراحمية إلى مادية تعاقدية، وما رغيف العيش الذى كانت تتلقاه أمى من جيرانها حينما يخبزون أو ترسله إليهم حينما تخبز إلا صورة من هذا التراحم.
لقد انتصر المسيرى لمفهوم مجتمع التراحم وهذا المجتمع العظيم لم ينبت فجأة ولكنه نبت من تعاليم الرسل التى ترسخت عبر آلاف الأجيال حتى صارت كالعرف السائد المتجذر فى أرض القلوب، ومنها «من لا يَرحم لا يُرحم»، «الرَاحِمُونَ يَرحَمُهُمُ الرَحْمَنُ، ارحَمُوا مَن فِى الأَرضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِى السَمَاءِ» «لا تُنزَعُ الرَحمةُ إلَا من شقى» «خيرُ الناسِ أنفعُهم للناسِ» وقول المسيح «طوبى للرحماء».
وحتى لو رق دين الناس وضعف فإن هذه القواعد النبوية العظيمة ستجد الحضن الدافئ لها لدى أصحاب الجينات الرقيقة الحنونة والقلوب البيضاء الصافية ليستظل الكون بدفئها وظلها من هجير الدنيا.
وكان من أهم كلمات الراحل عبدالوهاب المسيرى:ــ
الله هو الركيزة الأساسية لكل شىء فهو، سبحانه الركيزة الأساسية للتواصل بين الناس لضمان بقاء الحقيقة، فبغياب الله يتحول العالم إلى مادة صماء لا حياة فيها ولا روح».
وكان يفصل بين المشروع الإسرائيلى التوسعى وبين الدين اليهودى واليهودية ويرى أن المشروع الإسرائيلى مشروع استعمارى لا يمت لليهودية بصلة، وكان يقول: «المجتمع الإسرائيلى ليس مجتمعا عنصريا وحسب ولكن قوانينه أيضا عنصرية».
وكان يرى أن العلمانية الشاملة تحول العالم إلى مادة استعمالية تمثل الوجه الآخر للامبريالية التى حولت آسيا وإفريقيا والأمريكتين إلى مادة استعمالية يوظفها الإنسان الغربى الأقوى لصالحه، وأن العلمانية الشاملة قامت بتنظيم الداخل الأوروبى بشكل صارم وفى الوقت نفسه جيشت الجيوش وغزت العالم غزوة إمبريالية شاملة، ويرى أن «التقدم الغربى هو ثمرة نهب العالم الثالث وأن الحداثة الغربية لا يمكن فصلها عن عملية النهب هذه»، ويقول «ثمة هزيمة داخلية فى الفكر العربى تجعل من الغرب المرجعية الوحيدة ومصدر المعرفة الأوحد».
ويرى أن دعاة ما بعد الحداثة مفلسون يدعون إلى إفلاس العالم لأنهم يريدون العالم بلا رب ولا دين ولا ضمير ولا خلق ولا قيم، ويستغرب دعوة بعض العرب للحاق بركب ما بعد الحداثة الذى يريده الغرب، وكان يستغرب كثرة حالات الاغتصاب فى الغرب رغم الإباحة الجنسية الكاملة هناك، ويرى أن ذلك نتيجة الخلل فى الفكر الغربى.
قدم المسيرى خطابا إسلاميا جديدا يهتم بالمقاصد دون الغرق فى تفاصيل الفقه ليكون صالحا للتواصل الإنسانى العالمى، كان يربط دائما بين الصهيونية والعنصرية وبين كفاح الشعب الفلسطينى وشعب جنوب إفريقيا الأسود وهو يقاوم العنصرية البيضاء.
وهو كذلك يشبه د/ مصطفى محمود فى الانتقال بفكره الحر من دائرة الماركسية والإلحاد إلى طريق الإيمان واليقين، ويتأمل بعقله المبدع كل شىء، لم يخضع قلبه ولا قلمه لأحد سوى مولاه الحق سبحانه وتعالى، ثم ضميره الحر، رحمه الله رحمة واسعة وجزاه عن الإسلام والأوطان خيرا.