إن مسارات التطبيع المختلفة فى المنطقة وما حملته من انفراجات، وقد شاهدنا أبرز تجلياتها فى القمة العربية الأخيرة التى استضافتها المملكة العربية السعودية (خصوصا عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية وأيضا اللغة التى اتسم بها بيان القمة حول القضايا الرئيسية فى المنطقة)، انفراجات حلت محل التوترات والمواجهات فى العلاقات بين خصوم وأعداء الأمس، وأوجدت مناخا إيجابيا فى المنطقة. مناخ لا بد أن يتكرس ويتعزز مع الوقت لأن حصول ذلك هو لمصلحة الجميع إقليما ودولا. هذا المناخ الجديد يفترض أن يستفيد منه لبنان إذا ما صحت النيات ووجدت الرؤية لإطلاق مسار الإنقاذ الوطنى: المسار الذى هو مسئولية لبنانية أساسا. تفاهم الأطراف الخارجية المؤثرة فى لبنان عنصر مساعد وضرورى ولكنه ليس بديلا عن تفاهم داخلى فعلى وليس صوريا أو مجرد انعكاس لتفاهم خارجى كما تعودنا فى الماضى. يتغير اللاعبون ولا تتغير اللعبة كما يقال.
إن إنقاذ لبنان حاليا يتطلب تغيير «قواعد اللعبة». فالتسويات المؤقتة والتى تبرز هشاشتها أمام أى تحدٍ كبير وتسقط بانتهاء مفعول التفاهم الخارجى الذى أوجد التسوية، والتى كانت تقوم على سياسات التسويف وشراء الوقت واللجوء إلى المراهم بدل العلاج المطلوب، هذه التسويات لم تعد تجدى لبنان الذى تحول إلى «دولة فاشلة». دولة تعيش تحد وجودى يستدعى جراحة إصلاحية شاملة ولو بشكل تدرجى لإنقاذ «المريض» من الموت البطىء. أبرز تجليات الأزمة اللبنانية المتعددة الأسباب ومنها المالى والاقتصادى والسياسى، وهى أسباب مترابطة تغذى وتتغذى على بعضها البعض، الفراغ الرئاسى وهو يكمل شهره السابع. نشهد رهانات على لعبة توازنات القوى التى ستسمح بانتخاب رئيس قريب أو منتمى إلى هذا الطرف أو ذاك يرتبط فيها المتغير الخارجى مع المتغير الداخلى ضمن لعبة الرهانات هذه. ونسمع عن توازن جديد تنتجه العلاقة المتغيرة فى لعبة المتغيرات المتحركة والرهانات التى تحملها. ويمضى الوقت وتزداد تكلفة الإنقاذ الضرورى والمؤجل بسبب الصراع حول «قالب الحلوى» الرئاسى. إنها لعبة عض الأصابع بانتظار من سيصرخ أولا. ونسمع عن مقترح «توازنى»: رئيس قريب لهذا الطرف مقابل رئيس حكومة قريب للطرف الآخر. مقترح يبشر بأزمة وشلل عند أول مفترق طرق أو تحد أساسى تجب مواجهته، والأمثلة معروفة فى هذا المجال، وقد يشكل مصدر اختلاف لأسباب «استراتيجية» عند طرفى المعادلة. وتبدو معادلة الطمأنة المتبادلة بشكل استباقى فى هذه الصيغة حاملة لمخاطر شلل وأزمات عديدة لاحقا.
بعثة صندوق النقد الدولى التى زارت لبنان فى مارس الماضى ذكرتنا بما صار معروفا وهو أن لبنان يقف حاليا على مفترق خطير، ومن دون إصلاحات سريعة سيغرق فى أزمة لا نهاية لها. طريق الإصلاح وعناصره الأساسية صارت معروفة والتمنع عن إطلاق خطة فعلية للإصلاح صار أيضا أمرا واضحا مهما كثرت الحجج والادعاءات عكس ذلك. المطلوب بلورة حزمة إصلاحات شاملة وهيكلية تتناول مختلف أوجه النظام اللبنانى وهى أوجه كما نذكر مترابطة ومتكاملة. البنك الدولى يحذر أيضا فى آخر تقاريره من التنامى الكبير للاقتصاد النقدى المدولر (نسبة للدولار) والذى قدر حجمه بحدود ٩.٩ مليار دولارات العام الماضى أو نصف حجم الاقتصاد اللبنانى، الأمر الذى يشكل عائقًا كبيرا، حسب البنك الدولى، أمام تحقيق التعافى الاقتصادى. والأمثلة التى تشير إلى الانهيار الشامل أكثر من أن تحصى.
ولا بد من التأكيد أنه بقدر ما أن إنهاء الفراغ فى رأس السلطة فى لبنان من خلال انتخاب رئيس للجمهورية، اليوم قبل الغد، أمر أكثر من ضرورى لانتظام عمل الدولة، بقدر ما أن إطلاق حوار حول برنامج إصلاحى شامل وتدرجى يجرى الالتزام به، أمر أكثر من ضرورى أيضا. الأمر الذى يستدعى البدء فورا فى حوار هادف وفاعل تشارك فيه مختلف المكونات السياسية. فانتخاب رئيس دون الالتزام ببرنامج إصلاحى شامل سيكون بمثابة شراء بعض الوقت قبل السقوط الكبير.
الحوار المطلوب لا بد أن يسهل ويسرع من عملية انتخاب الرئيس الإصلاحى الذى عليه أن يشارك فى بلورة وإدارة البرنامج الإنقاذى الشامل، والمطلوب تشكيل حكومة تكون بمثابة «فريق عمل» لتنفيذ البرنامج الإصلاحى التدرجى والأكثر من ضرورى فى المالية والاقتصاد والإدارة والسياسة إلى جانب الرئيس. يجب العمل أيضا مع تكوين السلطة الجديدة على إيلاء أولوية لبلورة تفاهمات وطنية عملية، بعيدا عن الشعارات الفضفاضة. تفاهمات، نحن بأمس الحاجة إليها، تشكل مرجعية وقواعد ناظمة لسياسة خارجية ناشطة ومبادرة تعيد للبنان مكانته ودوره على المستويين العربى والدولى كما تساهم عبر ذلك فى تعزيز الأمن الوطنى للبنان، الشرط الضرورى لتعزيز الاستقرار وإطلاق مسار التنمية والإعمار.