حينما وصلت الحملة الفرنسية إلى مصر فى 1798، وجدت مصر متشرذمة شعبا وحكومة، كانت مصر منذ قدوم العثمانيين إليها فى 1517 مرتعا للمكايدات والمؤامرات والصراعات بين العثمانيين والمماليك، كان الحكم العثمانى لمصر فى تلك الفترة مجرد خراب للبلاد، فلم يطور أو ينهض العثمانيون بمصر واكتفوا بنهب ثرواتها. لعل قصة مصطفى باشا والوباء الذى حل بمصر وقتها قصة معبرة عن ذلك الخراب، مصطفى باشا تولى حكم مصر فى 1549، وبحسب الدكتور محمد صبرى أستاذ التاريخ المصرى فى كتابه «تاريخ مصر.. من محمد على إلى العصر الحديث» الصادر عن مكتبة مدبولى فى 1996 ففى فترة حكم الوالى مصطفى باشا، ضرب مصر وباء أزهق حياة ما يزيد على 300 ألف مصرى، ولم يكتفِ الباشا بعدم الاكتراث بتقديم الخدمات الصحية للشعب، ولكنه فعل ما هو أشنع من ذلك، فقد قام بجوب الديار المصرية للاستيلاء على ميراث الأغنياء منهم بإعلان نفسه وريثا لكل من مات جراء الوباء، ووضع هذه الثروات فى خزانته الخاصة، وحينما عُزل من الحكم فإن خليفته بيرم باشا، مكث فترة فى تنمية التجارة وإقامة المشاريع العامة، ولكنه فرض ضرائب باهظة على المصريين وعلى بيع وشراء كل السلع حتى الصابون، كما بسط قبضة حديدية على الجيش حتى يتحاشى أى فرصة للانقلاب عليه.
لم تمر فترة كبيرة على انتهاء ولاية بيرم باشا حتى جاء حسين باشا لحكم مصر وفعل ما هو أفظع مما فعله سلفه مصطفى باشا، فلم يقصر سياسة استيلاء الميراث على فئة بعينها كما فعل الأخير، ولكنه أصدر قرارا بإبطال الميراث فى جميع أنحاء البلاد، واستولى على ميراث من مات منهم ولم يستثنِ حتى من كان له أطفال أيتام ولا أرامل، فأخذ يستولى على الميراث دون شفقة أو رحمة، ولذلك فإنه لو أراد شخص التخلص من عدو له، فيشى للباشا بأنه غنى فيسجن ولا يخرج إلا بعد دفع أموال طائلة! ولم يكتفِ بهذا فحسب، ولكنه فى مدة حكمه لمصر والتى استمرت لأقل من عامين، قد أمر بقتل 1200 نفس، غير من قام بقتله بيده!
لم يتوقف الأمر عند ذلك، فخليفة حسين باشا ويدعى محمد باشا بن أحمد باشا قد قام بالاستيلاء على حصيلة الضرائب التى تُجمع من المصريين وقام بسلب ونهب ثروات العلماء والأمراء والأغنياء الأحياء منهم والأموات، حتى وصل به الأمر إلى جمع الصدقات ومنعها عن اليتامى والأرامل وأخذها لنفسه! وفى عهد مقصود باشا والذى تولى بفترة ليست بالبعيدة عن حسين باشا، ضرب الوباء مصر مرة أخرى وهذه المرة حصد حياة الآلاف حتى إن المؤرخين قالوا إنه فى كل شارع من شوارع القاهرة وبولاق كانت تتم صلاة الجنازة على نحو 30 أو 40 جثمانا فى اليوم الواحد، بل وكانت الكارثة أكبر من الحصر فى الصعيد، فقدر المؤرخون أن نحو 250 قرية قد خربت لإصابة كل سكانها بالوباء!
وهكذا، ظل الباشوات الأتراك ينهبون مصر وشعبها، ومع انشغال السلطان العثمانى بحروبه مع القوى الأوروبية، فلم يُعاقَب إلا القليل من هؤلاء الباشوات اللصوص بينما تُرك الآخرون ليعيثوا فى البلاد فسادا ونهبا وخرابا. كان كل هؤلاء لصوصا، وما عداهم الاستثناء! كذلك فقد عانت مصر تحت الحكم العثمانى من النزاعات الطائفية وأشهرها الحادثة التى وقعت فى عهد مقصود باشا؛ حيث تم الزج بـ 600 من المسيحيين المصريين فى الإسكندرية إلى السجون على خلفية بعض النزاعات الطائفية مع المسلمين، فقاموا بتكسير أغلال السجن والهروب منه مهاجمين المحلات والمخازن والبيوت حتى تمكنوا من استقلال سفينة فى البحر المتوسط فارين من الباشا!
***
ظلت الأوضاع على هذا البؤس حتى استعاد المماليك حكم مصر من العثمانيين بقيادة على بك فى 1771 حيث طرد على بك آخر والٍ عثمانى معلنا الاستقلال عن الباب العالى فى الأستانة. لم تكن مهمة على بك سهلة، فالبلاد كانت فى حالة تشرذم وفقر ومرض بعد أن رُهنت لأطماع الباشوات اللصوص، ولعل أول التحديات التى واجهت على بك، هو كيفية استعادة المنطقة الواقعة بين أسيوط وأسوان، حيث استقلت بها قبيلة الهوارة أثناء فوضى الحكم العثمانى، فأرسل مساعده «أبو الذهب» لاستعادة المنطقة المستقلة، وبدأ فى إرسال الجيوش إلى اليمن ومدينة جدة بحيث أصبحت معظم أنحاء شبه الجزيرة العربية تابعة له وأعلنه شريف مكة سلطان مصر وخاقان البحرين!
قام على بك بتطوير المشافى وطرق التجارة وإصلاح القضاء والمالية، بل وأعاد سياسة تعيين الأقباط فى مناصب كبرى، فقام بتعيين المعلم ميخائيل فرحات على المالية، كما قام بتنظيم المواصلات وإقامة المشاريع الكبرى. لكن لم يسلم على بك من خيانة حتى أقرب الناس إليه، فقد تخابر أبو الذهب مع الباب العالى للإطاحة بعلى بك وإعادة الحكم العثمانى إلى مصر وهو ما تحقق له بعد حين، فقُتل على بك فى معركته الحربية ضد أبو الذهب وتولى الأخير حكم مصر!
***
ظلت الدسائس هى عنوان تلك الحقبة، وضرب الوباء مصر للمرة الثالثة فكانت التقديرات أنه يقضى على ألف شخص يوميا فى القاهرة وحدها، حتى اقتسم إبراهيم بك ومراد بك حكم مصر، لكن سرعان ما نشبت الخلافات بينهم حتى وصلت إلى المواجهات العسكرية أحيانا والهدنة أحيانا بل والتصالح فى أحيان أخرى لكن وفى كل الأحوال كانت فترتهم أيضا مشهورة بالسلب والنهب والفساد، فكان هذا هو حال مصر السياسى حتى قدمت الحملة الفرنسية إلى مصر وجيشها لم يتعدَ الألف جندي!
أما اجتماعيا ففى كتابه «تاريخ مصر الحديث.. من الفتح الإسلامى إلى الآن».. المنشور بواسطة دار نشر هنداوى بالمملكة المتحدة (لم استدل على تاريخ النشر)، يرصد المؤرخ اللبنانى جُرجى زيدان أوضاع تركيبة سكان مصر فيقول إن تعداد مصر يوم وصول الحملة الفرنسية إليها كان حوالى ثلاثة ملايين نسمة، مقسمين إلى ثلاث طوائف رئيسية: الأقباط وهم السكان الأصليون لمصر، العرب وهم من توافدوا إلى مصر من شبه الجزيرة العربية مع الحكم الإسلامى، بالإضافة إلى المماليك واليهود.
كان الأقباط ينتشرون فى قطاعات التجارة والمالية، بينما كان المسلمون ينتشرون فى القطاعات الدينية والدعوية، والمماليك يتولون أمور الجيش. تركز سكن الأقباط فى القاهرة عند شمالها وغربها حيث الأسبكية وباب البحر. أيضا كان يعيش فى مصر بعض الأوروبيين ومعظمهم من الفرنسيين وكان معظمهم يتزوج من السوريين المسيحيين المقيمين فى مصر وقتها. وبشكل عام كان السوريون أيضا نشطاء فى التجارة ويسكنون مدن السواحل مثل دمياط ورشيد. أما عن علاقات مصر الخارجية فكانت محدودة للغاية وتكاد تقتصر على التجارة الخارجية وتحديدا مع البندقية حيث كان للأخيرة قنصل مقره الإسكندرية، كذلك كان يسكن مصر بعض التجار الإنجليز.
كانت هذه هى مصر عشية وصول الفرنسيين إليها، دولة مقسمة وفوضوية منهوبة ثرواتها، ومتدنية صحتها وتعليمها وجيشها، دشن الفرنسيون عهدا جديدا من التطور والحداثة، أناقشه فى المقالات القادمة لهذه السلسلة والتى اتفقت مع «الشروق» أن تكون جزءا من كتاب أكبر يتناول تلك المرحلة الحديثة من تاريخ مصر.
أستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر