نشر موقع السفير العربى مقالا للكاتبة «نهلة الشهال»، نعرض منه ما يلى:
الطائفية فى لبنان ليست علة فى النفوس. بل هى نظام متكامل ومبنى ومرتّب لتقاسم النفوذ والمال، عبر شيء أسموه «الدولة». لا أساس خاصا بالدولة اللبنانية كما يفترض بأن يكون لدولة حديثة. قبل الاستقلال، فى 1943، بعد 20 عاما أو أزيد بقليل على إعلان نشوء «لبنان الكبير» على يد الانتداب الفرنسى، أُنجز ما سمى «الميثاق الوطنى». وهو ــ الميثاق ــ كان شرطا من شروط التهيئة لذلك الاستقلال.
وبغض النظر عن النظرية وعمن بلورها وعن كل تفاصيلها ومحاجاتها، فإن من أنجز الميثاق وحوّله إلى توافق وطنى فى حينه كانوا أركان الوجاهة العليا فى لبنان الكبير ذاك. وجهاء راسخون فى بيئاتهم، وأصحاب مال ونفوذ، ومعه بعض الحرص والحكمة. سنّة وموارنة بالدرجة، ومعهم الأرثوذكس المتعلمون، وبالطبع بعض وجهاء الشيعة. بلدٌ اتفق هؤلاء يومها على أن قيامه مرتبط بتعيين دوره، وإلا فلن يقوم. وكان أن مهمته هى التجارة والتوسط بين أوروبا والمنطقة العربية، باعتبار فرادة تركيبته.
اشتغل هذا «الميثاق الوطنىس طالما كانت عناصر تكوينه فاعلة: طالما كان الغرب هو أوروبا، وطالما كانت المنطقة العربية بحاجة لخدمات هذه النخبة الغريبة العجيبة. ولكنه كان اتفاقا هشا تعريفا، مرتهنا إلى صفقة يمكن لأى طارئ أن يحفّز على إعادة النظر فيها.
فالتجربة الشهابية ــ نسبة إلى رئيس جمهورية فؤاد شهاب، وكان اشتهر بنزاهته، وبميله لعقلية المؤسسات ــ فقد عمّرت سنوات قليلة، ثم نخرها نظام المحاصصة الطائفية الذى يوفر للزعماء مصالحهم وأرباحهم، ويصون إعادة توزيع فتاتها على دوائرَ من الزبائن متفاوتة الأحجام.. وبالفعل فالإنسان فى لبنان يولد ويتعلم ويشتغل ويتزوج ويموت داخل طائفته. وهى التى تنظم كل شئونه. ولا حيّز أبدا خارجها.. هذا نظام مبنى، وليس مزاجا سائدا.
«صفقة الطائف» إذا كانت توليفة تمت على عجل، ولزوم تدبير إطار لحكم لبنان بالتى هى أحسن. وهى اختُصِرت ببعض التعديلات على نسب المحاصصة الطائفية، سواء فى البرلمان أو فى الوزارات أو فى الوظائف العليا أو فى «البزنس». ولكن الأهم أن لبنان ــ الذى كان قد فقد دوره التأسيسى منذ زمن، كوسيط ضرورى ونافع بين عالمين تغيرا كثيرا أو تبعثرا، ثم عاد ففقد أهميته أو خطورته مع خروج المقاومة الفلسطينية منه ــ صار معلّقا فى الهواء.
وقد راهن رفيق الحريرى على إعادة تعريف «دور» لبنان (على الأقل أدرك ضرورة ذلك، وهو ما يُحسب له)، على أساس أن اجتماع مدريد/ اتفاق أوسلو سيتحققان، وأن المنطقة مقبلة على سلام وازدهار، وأنه يمكن أن يعاد تعريف مكانة البلد وسطهما.. وحكم ذلك الافتراض أيضا منطق «إعادة الإعمار» بعد الحرب، ما لا يمنع التفكير بالأرباح والمكاسب المهولة لـ«الخاصة»، وخصوصا أنه كان من نتائج تلك الحرب الأهلية المديدة «تجديد» الزعامات والنخب، حتى حين يُحافَظ على اسم العائلة نفسه.
ويقول كل ذلك كيف أن صيغة المحاصصة الطائفية تلك تمتلك قوة مادية وليس رمزية فحسب. قوة لا علاقة لها بالمشاعر أو بالمعتقدات، يستبطنها الناس وتصبح جزءا من بنيتهم النفسية والعقلية، شيئا بديهيا مألوفا منهم. كان يقال فى طرابلس المعدمة أنهم «الموارنة»، من يعتدون على حصتهم هم، وياخذون أكثر من حقهم خلافا للاتفاق، فيتسببون بإفقارهم، ثم صار يقال إنهم «الشيعة». آخر هو الظالم والشرير، وليس النظام القائم. وحين اكتشف الطرابلسيون أن غرفة التجارة والصناعة والزراعة فى بيروت يديرها متنفذون واثرياء من السنّة، ذهلوا. وأن المرفأ الذى صار من عشرة أرصفة فى بيروت، بينما ممنوع على مرفأ طرابلس التوسع، يدار كذلك من أمثال هؤلاء، ذهلوا. وفهموا أن الشيعة الذين قيل إنهم يسيطرون على التجارة عبر وضع أيديهم على المطار والاستفادة من إعفاءات جمركية غير مشروعة، هم ليسوا كل الشيعة، وإنما رفاق «زعمائهم» بغض النظر عن الأيديولوجيات والشعارات، وأن عموم «الشيعة بدهم ياكلوا»، أى أنهم جياع، مثلهم تماما، وكذلك عموم الموارنة.
الإقطاع السياسى الجديد.. رث
صار لبنان يُدار من ساسة يشبهون فى كثير من النواحى الإقطاع السياسى القديم، وإنما مع طفوح الشكل والمضمون الرثين عليهم، حيث تتغلب التفاهة والجهل.. بشكل يثير الخجل! وفى وقت تتناقص ثروة لبنان لأسباب موضوعية. وبعد استباحته المدمِّرة من قبل الاحتلال السورى له، الذى دام على مدى ما يقرب من ثلاثة عقود، وبعد 15 سنة من الحرب الأهلية فيه، يمارِس هؤلاء نهبا بدائيا منفلتا من كل عقال، وهو يطال كل شيء.
وإذا كان نظام المحاصصة الطائفية قد تعطّل لأنهم «طلعوا بدهم ياكلوا، مثلنا»، أى أن الفقر الشديد والشعور بالإهمال، وبانسداد الأفق قد تعمم لدى كل أبناء «الطوائف»، واكتشفوا أن زعماءهم المُفدّيين ليسوا سوى لصوص جشعين إلى حد أنهم يخرِّبون البلد عن قصد، وعمدا، لمزيد من النهب، وأنهم غير مكترثين بأحد سوى بأنفسهم، وأنه لا شأن لهم بالشأن العام بتاتا، مما يعنى أنهم غير مكترثين بقواعدهم الزبائنية نفسها.. حتى صارت صفات الزبائنية نفسها منحطة انحطاطا شديدا حتى عما كانت، أى عن المحاصصة، التى هى بمعنى ما «حقٌ» لكل فئة فى ظل النظام.
تتمثل صفة «الرث» فى هذه المعطيات، وهى التى تجعل هؤلاء «الزعماء» منقطعين عن قواعدهم، ولا يفهمون ما يجرى الآن، وما زالوا يفكرون بالعقلية نفسها، فيتجادولون حول صيغ للتعديل الوزارى، إرضاء للملايين الغاضبة. صيغا تافهة، معدومة الخيال السياسى، وأدنى بكثير من الحد الأدنى من اليقظة لو كانوا يريدون الحفاظ على حد أدنى من الصدقية.
حالة حزب الله
يختلف سياق نشوء حزب الله ومساره عن هذا التوصيف. إلا أنه على ذلك ليس منشغلا إلا بالاعتبارات التى يسميها «جيواستراتيجية»، وهى فى حقيقة الأمر وأكثر فأكثر تخص مكانة إيران فى الصراع الإقليمى الدائر. هو لا يفكر بالناس وبهمومهم، بل لا يكترث إلا لسطوته، وللتوازنات التى تُوظّف فى أبعاد لا تخص الحياة اليومية لهؤلاء الناس، بمن فيهم أبناء البيئة التى يتحرك وسطها، ويجنِّد شبابها فى حروب مشروعة وغير مشروعة.
وهو بعد صموده فى وجه العدوان الإسرائيلى على لبنان فى 2006، أصيب بالغرور ومعه بقلة البصيرة، ومارس فعلا بشعا فى 7 مايو 2008، حين أراد ــ عن حق ــ تعطيل مؤامرة أمريكية إسرائيلية كانت فعلا جارية عليه، فبدأ بالاعتذار وبالقول إنه اضطر إلى احتلال بيروت ذات صباح. ثم عاد الغرور فغلب، وراح بعد أسابيع من ذلك الاعتذار يهدد «بتكسير الرءوس»، وما زال.. يا للخيبة!!
ولم يساعده فى التبصر أن ارتباطه بإيران قد تفاقم بعد هذا التاريخ، وكذلك بعد انفجار 2011 فى المنطقة. ولم يساعده أنه طُلب منه إيرانيا لعب دور بشع فى اليمن وفى العراق، فدرب نكاية بالسعودية المنشقين الجنوب يمنيين بداية وقبل 2011، ثم درّب وتعاون مع بعض الفصائل الموتورة من «الحشد الشعبى» فى العراق، وما زال.
أما معاداة إسرائيل، فقد صارت نوعا من «المتاجرة»، مثلها مثل «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» العتيد، يُقصد بها التغطية على سائر الصفات البشعة.. كما أن أزمته المالية الكبيرة الحالية لا تتيح له بالطبع إرضاء كل أبناء البيئة التى يتحرك وسطها، ما يُوسِّع دائرة المتفلتين من سطوته وشبكاته. وكذلك، فإن «السهولة» التى افترض بأنه يمكنه أن يدير بها تجنيده لعشرات آلاف الشبان للقتال فى سوريا، والثمن المهول الذى دفعه هناك، لا يخدمان بالتأكيد شعبيته، وذلك على الرغم من كل التخويف والتحريض.
ماذا بعد؟
الله أعلم! الأزمة عميقة، وليست ظرفية ولا جزئية ولا عابرة. وهى تتعلق ببنية متكاملة رست فى العقود الأخيرة، بينما لم يكن وضع لبنان أصلا، وقبلها، لا آمنا ولا مزدهرا. المراهنة هى على أن يكون الخوف الذى طغى على السلطة بكل رموزها خلال انفجار الناس رادعا كافيا عن القمع المباشر: كان ربع عدد سكان لبنان فى التظاهرات! مليون ومائتا ألف فى أحد الأيام. وهى مستمرة لليوم الثامن، وبزخم عالٍ على الرغم من الأمطار. وهى سيّست من كانوا حقا أبعد الناس عن التسييس. وهى رائعة فى سلميتها، وفى تجاوزها للانقسامات الطائفية، وفى سخريتها من الكل. ولكن هؤلاء «الكل» سيلجئون إلى ما يمكن أن يخيف الجمهور الأعظم، عبر التخريب، وعبر افتعال المشاكل العنيفة وما يشبهها. وحين يصبح عدد الباقين فى الشارع معقولا ومقتصرا على بضعة آلاف من المتظاهرين، يمكن ساعتها ــ ربما ــ اللجوء إلى العنف الرسمى.
إلا أن ما تحقق صار ملك الناس كلهم، وهو ثمين للغاية. فكيف يُبنى على أساسه وكيف لا يُبدد، وكيف يُقطع الطريق على المحبَطين (بصدق أو عن كذب) الذين سيسارعون للقول عند أول نأمة: لا نفع ولا فائدة وأنتم سذّج، أو قد يقولون أن بعض من كان فى التظاهرات مجرد وصوليين إلخ.. وكيف يُقطع الطريق على المتعالِمين، الذين يقولون «لازم تنظيم»، و«لازم أطر» و«لازم برنامج»، وهى ادعاءات محقة لولا أن القصد بها فى مثل هذا الظرف هو إرجاع الناس إلى بيوتهم وإلى بؤسهم ويأسهم.
«الطريق تُشق أثناء السير بها»، قال الشاعر الأندلسى «انطونيو ماتشادو». نحاول وقد نفشل.. إلا أننا سنعيد المحاولة! هذا هو الصراع، وهو قانون الحياة.
النص الأصلى