استدعى زعيم التنظيم أحد أتباعه للقيام بتفجير الطائرة، وافق سلامة على التكليف، أراد أن يشجع نفسه قبل الذهاب للمطار، أعاد الاستماع للشريط المسجل الذى أهداه إياه قائد التنظيم والذى يحكى بالصوت والصورة مآسى المسلمين فى غزة والعراق وأفغانستان والبوسنة وتركستان الشرقية وغيرها.
ركب الطائرة، وجلس على المقعد المخصص له، استمع إلى صوت المضيفة وهى تتحدث على لسان قائد الطائرة الذى ألقى على الركاب السلام وتمنى لهم رحلة سعيدة مع سلامة الوصول.
سمع مثل هذه التوجيهات كثيرا ولكنها لم تستوقفه إلا اليوم، عاتب نفسه قائلا: قائد الطائرة يتمنى للركاب السلامة والعافية، وأنا أحرص على قتلهم وأذاهم، وما ذنب قائد الطائرة والمضيفين والمضيفات والركاب حتى يقتلوا، فليسوا فى معركة مع أحد، ولا علاقة لهم بالصراعات السياسية، ولم يؤذوا أحدا من قبل ولا من بعد، حزن لأنهم يبتسمون له ويحبونه وهو يضمر لهم شرا.
نظر إلى الكرسى المجاور فشده حديث طفل صغير جميل يسأل أمه: أين الله؟ هل نحن قريبون منه الآن؟ لماذا لا نرى الأرض؟ ما هذا السحاب؟ هل سنصل قريبا؟ هل سينتظرنا أبى فى المطار؟ تعجب لأسئلته المتلاحقة وخاصة حينما قال لها: أمى أنا خائف؟ قالت له أمه: لا تخف فإن الله معنا وهو قريب منا ويرانا ويحفظنا، اطمئن واذكر الله فإن دعاء المسافر مستجاب.
عجب لعمق تدينها مع بساطته،تذكر زوجته وأولاده الذين تركهم دون وداع، أشفق على أطفاله من اليتم وعلى هذا الطفل من الموت.
قال لنفسه: من لأولادى بعد موتى، وما جريرة هذا الطفل حتى يلقى المصير المؤلم الذى ينتظره، وما هو شعور والده حينما يلملم أشلاءه وأشلاء زوجته.
دقق النظر فى الطفل فتبسم له الأخير ابتسامة بريئة ردها بابتسامة أجمل، آه ما أحلى ابتسامة الأطفال التى لا تعرف المكر أو الكيد، تذكر طفولته وبراءتها وأن هذه الطفولة لم تقتل إلا يوم دخوله فى صراعات سياسية مريرة، كره فيها أطيافا عديدة كان يمكنه أن يحبها وتحبه لولا حدية الصراعات التى دخلها، أقنع نفسه أن ما مضى قد مضى، وأن العودة لبراءة الطفولة صعبة.
استيقظ شعور الرحمة داخله، قال لنفسه: كيف أقتل النساء والأطفال؟ وقد نهى الإسلام عن ذلك حتى فى حالة الحرب، أنصت برهة وكأنه يسمع بيان النبى لجيوشه «لا تقتلوا طفلا ولا امرأة».
تأمل طفلا مريضا بالقلب يتنفس بصعوبة، علم من أمه المرافقة له أنه مسافر لإجراء جراحة كبرى لعيوب القلب الأربعة التى يعانى منها.
ابتسم للطفل بشفقة، تذكر وقتها ابنته التى كانت تعانى من «عيب فالوت الرباعى بالقلب» وكيف تعبت كثيرا وتعب معها وتمنى لو استطاع علاجها قبل الوفاة، خيل إليه للحظة أنه ينظر إلى ابنته وليس لهذا الطفل البرىء، تبادل الابتسام مع الطفل الشاحب تارة والأزرق أخرى والطفل يرد عليه بالابتسام بصعوبة مثل تنفسه، لكن ابتسامته رقراقة صادقة مثله.
تدفقت ينابيع الرحمة فى قلبه وتمنى أن لو يفديه بحياته ويطيب خاطر والدته التى يظهر عليها الفزع فى كل لحظة يهدأ أو يسرع فيها قلب طفلها.
كم تمنى أن لو كان جراحا عظيما للقلب ليرحم مثل هؤلاء الأطفال من السفر للخارج، تذكر أصدقاءه الأطباء وكيف كان متفوقا ولكنه تنكب الطريق وساء حاله فتحول إلى الإرهاب والقتل بدلا من الاحياء.
حاول تذكر الطريق الطويل الذى قطعه من عالم الطب والرحمة إلى عالم الصدام والدماء، لم يتكسب يوما من هذا الطريق الصعب، ولم يستفد منه دنيويا، قناعاته التى ساقته لذلك، دفع كل شىء فيه راضيا وصابرا، كان يظن طريقه صحيحا لكنه يكتشف كل يوم خطأه وحيدته عن الجادة.
صرف نظره بعيدا عن الأطفال فى الطائرة فهو ضعيف أمامهم ولو تأملهم طويلا لألغى العملية التى جهز نفسه من أجلها طويلا، حاول النعاس قليلا دون جدوى، شده حديث عروسين فى الكرسى الأمامى بملابس الزفاف، فعادت إلى ذاكرته الأيام الأولى لزواجه، استمع لضحكات العروسين وشعر بفرحتهما الطاغية بشهر العسل، أنصت لاقتراحات كل منهما عن برنامج شهر العسل.
قال لنفسه: كيف سيتحول الثوب الأبيض إلى أحمر قانى وأكفان بائسة، والضحكات إلى صرخات، كيف سيدفن هذه الفرحة إلى الأبد، تفكر فى حال والدى العروسين حينما يسمعان خبر تفجير الطائرة، وفى المقابل تصور حال زوجته حينما تسمع بمقتله، والعار الذى سيلحق بأسرته حينما تنشر القنوات صورته كإرهابى قتل الأبرياء فى الطائرة.
حزم أمره على التفجير فذهب إلى حمام الطائرة ليضبط توقيت تفجير القنبلة فى الجو، وجد الحمام مشغولا فوقف إلى جوار أحد المقاعد الخلفية، وجد شابا أبيض البشرة يتحدث العربية بصعوبة ويحكى قصته لآخر فى فخر: «لقد أحببت الإسلام لأنه دين الرحمة والمودة، وأسلمت فى الأزهر،
وتعلمت شيئا من القرآن وأواظب على الصلاة، وأتعجل العودة لأمى وزوجتى وأولادى لأعرفهم بهذا الدين السمح وأدلهم على مواطن الحب والألفة فيه.
وقف مذهولا، فكر فى مشاعر أسرة هذا الشاب حينما يُقتل على يد مسلم مثله، ترى ماذا ستقول هذه الأسرة عن الإسلام وبلادنا.
الحمام ما زال مشغولا، وقف إلى جوار كرسى آخر، استوقفه حديث راكب لصديقه، عرف من حديثهما أنه جراح قلب حصل على أعلى الدرجات العلمية من الغرب وأنه بصدد استيراد أجهزة زراعة القلب فى الوطن العربى، حيث إنه من العار أن تتقدم بعض الدول علينا فى هذا العلم العظيم.
تذكر طفولته حينما كان يتمنى والده أن يكون طبيبا، قفز إلى ذهنه المقارنة بين موقفه وموقف هذا الجراح، أحدهما مهمته الإحياء والآخر مهمته القتل، أحدهما الرحمة والآخر القسوة والغلظة، أحدهما الخير والآخر الشر.
حزن على نفسه لتحوله من فلسفة هداية الخلائق إلى تكفيرهم، ومن الإحياء إلى التفجير.
وجد بعض اللاجئين العرب قدموا على الطائرة للعلاج، سمعهم يحكون مآسيهم ويتمنون الأمان فى المهجر وبلادهم.
عدل عن تفجير الطائرة وبدلا من ضبط القنبلة للتفجير قام بتفكيكها وإلقائها فى دورة المياه فى المطار قبل أن يعبر التفتيش، كان العرق يتصبب منه رغم برودة الجو.
أخيرا هدأ قلبه بعد شدة خفقان، شعر أنه ولد من جديد، عزم على أن يحارب فكرتى التكفير والتفجير، وجد من حوله يحيونه على سلامة الوصول وكأنهم يعرفونه، رأى فرحة الطفل وهو يجرى على أرض المطار ليحتضن والده، فرح بمشهد الأم التى تجر عربة ابنها المريض بالقلب لتصل به إلى عربة الإسعاف التى تنتظرها خارج المطار، لوح له بيده فى فرح، رأى العروس تمسك بيد عريسها فى فرحة غامرة، شعر بسعادة كبيرة لأنه ساهم فى إحياء هذه الأنفس، وسعد بانتصاره على نفسه وقهره لنزواتها، أصبح من أئمة السلام والإصلاح بين الناس.