التقى الإسلام مع المسيحية فى مواقف رائعة تغمرها الرحمة ويغلفها التسامح والعيش المشترك بل والحماية المتبادلة، حيث تبادل كل منهما موقع حماية الآخر والذود عنه ضد الاضطهاد، وفى وقت قوة كل منهما كان يمنح الآخر حرية العقيدة والعبادة.
ولم يتعكر صفو هذه العلاقة إلا بعد محاكم التفتيش فى إسبانيا والبرتغال بعد هزيمة المسلمين فيهما وإصرار ملوك إسبانيا الجدد فى طرد عوام المسلمين وقهرهم على تغيير دينهم، وتكرر الأمر مرة أخرى حينما أصاب أوروبا التعصب السياسى والدينى وسيروا أكثر من عشر حملات أوروبية مسلحة سميت مجازا الحملات الصليبية التى استدعاها قسس أوروبا بالتحالف مع ملوكها، ليس من أجل دين المسيح الذى لم تعرفه أوروبا بحق فى يوم من الأيام ولكن من أجل كنوز الشرق واحتلال بلاده الساحرة، وكل الصدامات بين المسيحية والإسلام كانت بين الأوروبيين والمسلمين فى الشرق ولم يكن الدين أساسا فيها ولكن كانت الأطماع الاستعمارية والسياسية سببا فيها. أما لقاءات المسيحية والإسلام الكبرى فى المشرق فكلها رائعة ونخص منها سبعة لقاءات هى كالتالى:
اللقاء الأول:كان أول تماس تاريخى بين الإسلام والمسيحية حينما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحبة عمه أبوطالب إلى بصرى بالأردن والتقيا براهب بيزنطى اسمه «بحيرى» توسم فى رسول الله وهو غلام أن يكون نبيا، وطلب من أبى طالب أن يحافظ عليه، ولقيه كذلك حينما عاد مرة أخرى إلى الأردن وهو شاب، وكان اللقاء تحت شجرة ما زالت باسقة حتى اليوم وهذه الشجرة هى التى شهدت التأسيس الأول للعيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين بالرحمة والإنصاف والعدل والتسامح.
أما اللقاء الثانى: بين الإسلام والمسيحية فكان أروع من الأول وذلك حينما أرسل الرسول «صلى الله عليه وسلم» ثلة من أهم أصحابه إلى النجاشى ملك الحبشة المسيحى وكان على رأسهم ابن عمه عبدالله بن جعفر، لم يأتمن عليهم ملكا سوى النجاشى، والغريب أن الرسول «صلى الله عليه وسلم» لم يمدح قبل النبوة ولا بعدها ملكا مثلما مدح النجاشى إذ بين علة إرسال هذه الثلة الغالية من أصحابه إلى هذا الملك بقوله «اذهبوا إلى النجاشى فإنه ملك لا يظلم عنده أحد» وكأنه يصيح ويهتف فى الدنيا كلها أن قيمة العدل أساس وأصل القيم وأغلاها وأعلاها فى قيم الحضارات فهى الصانعة والحافظة لكل الحضارات، والبانية للعمران الإنسانى على مر العصور، وهى ممدوحة حينما تصدر من أى كائنا من كان مسلما أو مسيحيا أو يهوديا أو بوذيا أو هندوسيا، أو شيعيا، أو سنيا.
ولم يكذب النجاشى ظن وحدس الرسول فيه فأكرمهم وأحسن وفادتهم ووهبهم الأمان الكامل ورفض كل المغريات والرشاوى والوشايات ونصائح بطانته وحاشيته الذين أغرقهم وفد قريش بالهدايا والرشاوى، كل ذلك فعله حتى قبل أن يسلم، ولعل ما فعله النجاشى وما قاله فى حق النبى محمد كان سببا غير مباشر فى إسلام عمرو بن العاص بعد ذلك، فقد سمع عمرو قولة النجاشى التى تكاد تتشابه مع كلمة «برنارد شو» إن أقرب رسالتين لبعضهما هما رسالة محمد والمسيح».
لقد حمت المسيحية الإسلام والمسلمين وهم ضعفاء فى مهد دعوتهم، ولعل ذلك هو الذى جعل رجلا قرشيا شديد المراس مثل عمرو بن العاص يعرف فضل النجاشى والمسيحيين فى حماية المسلمين فى مهد الدعوة الإسلامية ويرد لهم الجميل بعد فتح مصر، ويعرف قدرهم ويؤمنهم ويزيل عنهم اضطهاد الرومان ويكرم البابا بنيامين ويؤمنه ويعيده إلى سلطانه فى قيادة الكنيسة المصرية.
اللقاء الثالث: حينما نزلت سورة الروم تبشر المسلمين بانتصار الروم على الفرس عقبت على ذلك بالآية «وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَهِ» لأن الروم كانوا مسيحيين من أهل الكتاب ولكن الفرس كانوا يعبدون النار ولم يكن لهم كتاب سماوى مثل الإنجيل والتوراة.
لقد أرسل الرسول رسالتين إحداهما إلى هرقل ملك الروم والأخرى إلى كسرى ملك الفرس فمزق الأخير رسالة الرسول وأمر بالقبض عليه لأنه قدم اسمه عليه فى صلف وغرور، أما هرقل فقد تصرف مع الرسالة بتعامل الملك الحكيم المتأنى فقد سأل عن أقرب الناس إلى الرسول وكان وقتها أبوسفيان فسأله 11 سؤالا وتلقى 11 إجابة خلص منها صدق النبى وتنبأ بانتصاره وأنه لو لقيه لاتبعه وأنه سيملك موطن ملكه وهذا يبن الفرق بين أصحاب الدين من المسيحيين وبين عبدة النار والأوثان.
أما اللقاء الرابع: بين الإسلام والمسيحية فقد تم بين الرسول «صلى الله عليه وسلم» ونصارى نجران «فقد جاء وفد كبير من قبيلة نجران وهى من أكبر القبائل المسيحية المتاخمة وقتها لدولة الإسلام فى المدينة، واستضافه الرسول فى المسجد وأحسن وفادته وأكرمه وعرض عليه رسالته، وبعد عدة أيام قضاها الوفد فى المدينة أعلن رفضه للإسلام وأعلن ترحيبه بالسلام مع النبى ودولته وقبل الرسول «صلى الله عليه وسلم» ذلك ولم يكرههم أو يجبرهم على شىء وعادوا إلى وطنهم معززين مكرمين.
أما اللقاء الخامس: بين الإسلام والمسيحية فكان على عهد الرسول «صلى الله عليه وسلم» أيضا وذلك حينما هرب عدى بن حاتم سيد قبيلة «طى» وقبضت جيوش المسلمين على شقيقته «سفانة» التى استقت الحكمة من أبيها، فلما عرفها رسول الله أكرم وفادتها وزودها بالهدايا وردها إلى قومها لأنه كان يحب «حاتم الطائى» رمز العرب فى الكرم، وكان حاتم مسيحيا، وكانت العرب كلها تجله لكرمه الذى كان يضرب به المثل وكان يسوس قومه بالحلم والرفق والجود، وقد حثت سفانة شقيقها حاتم على الذهاب إلى النبى محمد قائلة له: «فإن كان ملكا ستكرم عنده وإن كان نبيا آمنت به واتبعته».
وبعد زيارة عدى للنبى فى بيته المتواضع الذى لم تكن عليه حراسة ولا بطانة ولا خدم ولا برستيج وفيه وسادة واحدة أجلسه عليها الرسول عليه السلام وجلس وهو رئيس الدولة والدين على الأرض فأيقن أنها النبوة.
اللقاء السادس: حينما أرسل الرسول «ص» رسالة إلى المقوقس حاكم مصر «قيرس» فقبل الرسالة وأهدى الرسول السيدة «ماريا القبطية» أى المصرية «ضمن هدايا أخرى فتزوجها الرسول» صلى الله عليه وسلم لتتم المصاهرة بين الإسلام والمسيحية من جهة وبين النبى ومصر من جهة أخرى.
أما اللقاء السابع: فكان على أرض مصر بعد أن فتحها عمرو بن العاص فلم يهدم كنيسة أو يعتدى عليها أو يكسر صليبا أو يهيج أو يفزع راهبا، بل مر جيشه إلى جوار كل الأديرة والكنائس فأمن رهبانها وقسسها وأعاد البطريرك بنيامين إلى سلطته ورد الجميل للمسيحيين الذى أكرموا وفادة مهاجرى الحبشة وكان هو أحد شهود الواقعة قبل أن يسلم.