نشر موقع 180 مقالا للكاتب نضرى الصايغ يعرض فيه مساوئ اللجوء إلى سياسات الخصخصة أو صندوق النقد الدولى لأن من شأنهم مفاقمة الأزمة المالية والخوف من أن تؤدى السياسات المشروطة إلى إجبار لبنان على الانصياع لمصالح الولايات المتحدة... نعرض منه ما يلى:
طوت الانتفاضة يوم الأحد فى 25 يناير مئويتها الأولى. الساحات والإرادات والحناجر والشعارات تشى كأن الانتفاضة فى يومها الأول.
لم نجد دولة تقمع الأغنياء النهابين. إنهم يقمعون الفقراء المنهوبين فقط، وقياداتهم التى اختارت الانتماء إلى الفقراء. عندما يخيم الظلم والفقر والاستبداد، تكثر حوادث الاغتيال. ألف حادثة اغتيال فى البرازيل، و90% من حوادث العنف التى تمزق المدن الكبرى فى البرازيل، «منشؤها الفقر المدقع الذى تعانيه أكثرية البرازيليين»… «الجوع كافر» يا عالم يا هو!
ولأن العنف يصير مذهبا للفقراء، كان الأغنياء يتنقلون بطائرات مروحية أو بالسيارات المصفحة، محاطون ومحروسون بميليشيات مسلحة، وبيوتهم مختبئة خلف جدران عالية جدا.
لم تكتمل الصورة بعد. الفقر يتقدم بسرعة. السلطة (فى البرازيل) عالجت المأساة الاقتصادية بالخصخصة. والخصخصة واقعا، هى أكبر عملية نصب، يقدم عليها البائع والمشترى. بيعت مؤسسات الدولة المنتجة، بأرخص الأثمان. القطاعات المربحة بيعت بأقل من ثمنها بكثير. باستثناء الشركة الوطنية للنفط، حيث تمت حمايتها بقوة نقابات العمال (برافو).
عندنا، باعوا الشواطئ مجانا. لا يوجد أحقر من سلطة تتباهى بأنها فاسدة.
يقول الدكتور غسان سلامة، فقط عندنا، يسير الفاسد فى الشارع متباهيا. انظروا إليهم. حدقوا بهم بربكم، كيف تطيقون هذا المشهد.
خاتمة المشهد البرازيلى، تصلح عنوانا للورقة الإصلاحية التى تفتقت فيها عبقرية جهنمية غير مسبوقة، ويشهد لها الرئيس البرازيلى كاردوسو بارك. الخصخصة. مدير مكتبه برر العملية بما يلى: ”إن شركاتنا العامة قوية ومرغوب فيها جدا. لذلك، سوف نبيعها لاستخدام ثمنها لإنقاذ الشعب البرازيلى من الفقر».
تتضمن الورقة الإصلاحية اللبنانية بيع المرافق الحيوية. النتيجة بعد البيع، أن المحصلة المالية كانت ممتازة جدا، إنما، وهنا جوهر الموضوع، فإن عشرات مليارات الدولارات قد تبخرت. أين؟ قيل، بسد فجوات فى الميزانية العامة، وهناك جزء حرزان حُول إلى حسابات خاصة فى الخارج، أو فى جيوب الوزراء والجنرالات والقضاة والموظفين الكبار وكبار موظفى المصارف.
أليس لبنان نموذجا يحتذى. منذ ثلاثين عاما، ولبنان يراكم الفضائح، ويعالج كل فضيحة، بفضيحة أفدح؟
ارتكابات صندوق النقد الدولى
أمريكا اللاتينية ضحية مثالية، كونها الحديقة الخلفية للبيت الأبيض الأمريكى. فماذا عن بلاد فى قارات بعيدة؟ تايلاند مثلا؟
يتهم الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد جوزف ستيفليتز، صندوق النقد الدولى، وهو كان مسئولا كبيرا فيه، بأنه فاقم بتدخله، الأزمة المالية التى ابتلعت فى النصف الثانى من تسعينيات القرن الماضى اقتصاد عدة بلدان فى آسيا، وبأنه «كان المسئول المباشر عن إغلاق عدة معامل وشركات تجارية، متسببا بحالة الفقر التى غرق فيها ملايين العمال وأسرهم».
منذ ثلاثين عاما، انفجرت تايلاند. أزمة مالية كبيرة افقدت العملة الوطنية قيمتها. غادرت الرساميل البلاد، سرا وعلنا بكثافة. أقدم البنك المركزى على استخدام مئات الملايين من الاحتياطى من الدولارات من أجل شراء العملة الوطنية مقابل الدولار دفاعا عنها. بعد ثلاثة أسابيع توقف النزف لأنها وجدت نفسها عاجزة عن الدفع. انتقلت العدوى إلى اقتصادات دول مجاورة: اندونيسيا، تايوان، كوريا الجنوبية. صندوق النقد الدولى حاضر لتطبيق وفرض شروطه. فعل ذلك ودفعت تلك الدول خسائر ضخمة. المكسيك كذلك. طبقت سياسات مالية ونقدية تسامحية أمام هرب الرساميل والتهرب من الضريبة وفساد المسئولين وتراكم الديون الخارجية. النتيجة تضخم نقدى، بعد كل هذه السياسات، هدد النسيج الاجتماعى للبلاد. صارت البلاد بحاجة ماسة إلى الاموال. لجأت حكومة المكسيك إلى مقصلة صندوق النقد الدولى، فطالب المكسيك بالآتى: خفض المصاريف العامة، مكافحة التضخم، تجميد الأجور.
يشير ستيفليتز إلى الإجراءات ذات البعد الواحد التى يطبقها صندوق النقد الدولى: تحرير أسواق المال تحريرا كاملا. تدفق رساميل لم توظف لأجل طويل، تأمين الربح السريع والمرتفع، عن طريق المضاربة على العقارات. التمويل المتدفق أنفق على ناطحات سحاب نمت كالفطر، وأبراج ضخمة لكازينوهات وما يشتق منها، ونوادى للترفيه، وأحياء كاملة من شقق للسكن وفيلات ضخمة جدا.
أليس هذا ما حصل فى لبنان ما بعد الحرب. «سوليدير». فقاعة عقارية. أبراج فارغة. فنادق إلخ. بناء فخم زاد عن الطلب وليس فى متناول الطبقة الوسطى، فتهجرت من مساقط رءوسها وانتقلت إلى أحزمة من الأبنية المتصلة، بحيث أكلت المساحات الزراعية والجبال والشواطئ، وتشوهت صورة لبنان بالكامل. معظم ما تم ارتكابه عمرانيا فارغ، فارغ، فارغ.
هكذا حصل فى أكثر من بلد: عرض المساحات المبنية زاد عن الطلب عليها، فانفجرت الفقاعة العقارية. هربت الرساميل الأجنبية بالسرعة التى دخلت فيها، فانهار الاقتصاد. لبنان، لم يشذ عن القاعدة. أنفقت الأموال فى مشاريع كبيرة لا تتفق مع متطلبات الطبقة الوسطى. سويسرا الشرق، تحولت إلى حى من أحياء سان باولو البائسة. تبا مرة أخرى. غير أن النصيحة المكتوبة تكون سرية: تطبيق التقشف. تخفيض الإنفاق المجدى وغير المجدى. وقف القروض المصرفية. إذا، لا دواء، لا طاقة، لا فيول، لا مواد غذائية.
إنه الحريق الكبير ولا وجود لمن يطفئ هذه الحرائق، إلا من أشعلها!
الإفلاس، تتسبب به أولا، السلطات الفاسدة. هذا ما اتفق عليه خبراء دوليون، كما جاء فى كتاب، «أسياد العالم الجدد» لجان زيجلر. لبنان نموذج. اقتصاد الفساد أكبر من أى فروع الاقتصاد فى لبنان. المشاريع التى تنفذها الدولة (ولا يتم إنجازها) هى بيد مقاولين وشركات تمت بصلات رحم وصلات حساب، مع الطغمة السياسية. الحاكمون، صيادو فرص وقناصو مناسبات، علنا وبلا أى شعور بالفضيحة. الفساد هو العملة الوطنية الرائجة. طغيان المال وتوظيفه حكوميا، يمنع الشفافية والمساءلة. تتساوى فى هذا الأمر، الأنظمة الديكتاتورية والأنظمة الديموقراطية الفاشلة. يضاف إلى ذلك، اعتماد سياسات اقتصادية تتفق ومنطق الأسواق العالمية، بما فيها من رذائل تفرضها تقنيات العولمة الاجتياحية. من «خرائب» العولمة، سياسات التخلى عن الزراعة والإنتاج الصناعى، والتعديل الحاسم على التجارة، باتجاه واحد. وصية الفيلسوف الاقتصادى ميشال شيحا أن لبنان بلد تجارة بين بضائع البحر وأموال الصحراء، ولبنان نقطة وصل. محطة لا أكثر. «قوميسيون». من إرشادات العولمة المؤذية، تمكين المصارف والشركات الكبرى من التحكم بمفاصل التجارة، بحيث تظل الأسواق مفتوحة للاستيراد، مقابل تصدير هش وضعيف وفقير.
من يدفع الثمن؟
منذ مائة عام، مات الناس جوعا فى لبنان. فقد البلد ثلث سكانه. رواية «الرغيف» لتوفيق يوسف عواد شهادة جارحة فى ذلك الزمن الأسود. هل نحن عائدون قرنا إلى الوراء؟
بعد مائة عام، يتساءل اللبنانيون عن حق، هل نحن على أبواب مجاعة، وهل يمكن النجاة منها؟ الجواب مقلق. لا طمأنينة بعد اليوم.
يبدو أن لبنان محاصر خارجيا. فقر فى الداخل وقرار حرمان من الخارج. مساعدة لبنان ممنوعة، أولا، لأن لبنان لم يف بتعهداته، وثانيا، وهو الأهم، لأن لبنان على مفترق خيارات إقليمية مفتوحة فيها جبهات المواجهة والقتال. لا أحد مسـتعد لمساعدة لبنان من دون ثمن، أو أثمان سياسية. لا صندوق النقد الدولى، ولا الأشقاء العرب.
الخوف، كل الخوف، من المساعدات المشروطة، إن بصفقة القرن لتوطين اللاجئين والنازحين، وإن بقبول لبنان ترسيم حدوده البحرية مع كيان الاغتصاب وفق المنظور «الإسرائيلى»، أو بسلاح المقاومة وهو من سابع المستحيلات جملة وتفصيلا.
لا أموال بلا سياسة، حتى ولو جعنا. حدث ذلك فى طشقند. فى العام 1995، قطع صندوق النقد الدولى كل علاقته بهذا البلد لإدارته الكارثية لقروضه. صندوق النقد الدولى ليس مستقلا أبدا عن إرادة الإدارة الأميركية. منعت الولايات المتحدة الأميركية تقديم قروض إلى طشقند، غير أن الضرورات العسكرية فى حرب أفغانستان، حتمت على واشنطن البحث عن محطة لطائراتها المقاتلة. لم يكن أمامها سوى طشقند. فتدفقت القروض وشطبت الديون، وعادت عمليات الضخ المالى، بأوامر من البيت الأبيض وجورج بوش تحديدا.
هل يُعامل لبنان كطشقند؟
ليت لا.
النص الأصلى:من هنا