فى طريقى إلى الجامعة كنت أتوقف عند جامع عمرو بن العاص لأبدأ منه رحلتى بالدراجة. ومنذ بداية العام الدراسى فى أكتوبر الماضى وأنا أتابع السرعة الكبيرة التى يتم بها تنفيذ مشروع «تلال الفسطاط»، وأتعجب من هذه العجلة البادية فى تنفيذ مكونات المشروع، والتى لا أستطيع استيعاب هل هى فى ذلك ستكون قادرة على أن تتجذر فى أرضها وبيئتها الطبيعية؟ خاصة وأنا أعرف أن تلك المنطقة مليئة بالتحديات؛ أولها، وربما أهمها المياه الجوفية والتى تظهر فى منطقة الحفائر ومناطق أخرى وتقع الآن على مساحة عشرات الأفدنة، والتى نتيجة انخفاضها فهى بمثابة مجمع لتلك المياه ليس فقط على المستوى المحلى ولكن ربما على مستوى أكبر من ذلك.
مشكلة المياه الجوفية فى مصر مشكلة معقدة، ومشكلتها فى منطقة الفسطاط مركبة، وكانت عرضة لأبحاث سابقة قام بها باحثون مصريون من جامعتى عين شمس والأزهر. وأشارت إحدى الدراسات إلى المصادر المتعددة لتلك المياه الجوفية؛ منها مياه رى الحدائق المحيطة ومياه الصرف الصحى للمناطق السكنية القريبة بالإضافة لمصادر أخرى. واقترحت الدراسة بعض الحلول لتخفيض منسوب المياه الجوفية بالمنطقة. ولكن السؤال الأهم بالنسبة لى، هل هذه الحلول مستدامة أم لا؟
• • •
المشكلة الكبرى فى المياه الجوفية هى ارتباطها بمنظومة المياه ككل وبالخزانات الجوفية للمياه، ويمكن طبعا الرجوع للحلول التى تم اتباعها فى العديد من المناطق التاريخية، سواء فى القاهرة أو مدن أخرى فى مصر، لمعرفة مدى تعقيد تلك المشكلة، وكيف أن أغلب الحلول التى تم اقتراحها هى فى حقيقتها حلول مؤقتة تتعامل مع الأعراض أكثر منها مع الأسباب، مما يثير تساؤلات جدية حول مدى استدامة تلك الحلول وطبيعة وطريقة تناول المشكلة.
قبل أن تداهمنا كورونا ولمدة سنتين متتاليتين زرت منطقة الحفائر ورأيت بقايا الآثار الفاطمية، وخاصة المساكن، ورأيت أيضا بقايا سور صلاح الدين ولاحظت بوضوح كيف أن بعضها يكاد يتآكل بتأثير المياه الجوفية الملوثة بالبقايا العضوية التى هى فى الغالب نتاج الصرف الصحى للمناطق السكنية المجاورة، كما لا يمكن تجاهل ارتفاع منسوب المياه الجوفية وتأثيرها على مدى هشاشة التربة السطحية. لا أدرى فى الحقيقة كيف سيتعامل مشروع تلال الفسطاط مع هذا الواقع المركب، وماذا عن التأثير المحتمل للبناء الكبير والنشاط البشرى المكثف والزراعة المقترحة فى منطقة المشروع والتى كانت لمئات السنين صحراء فى أغلبها. ولا أدرى أيضا إن كانت هناك دروس تعلمناها من التعامل مع بحيرة عين الصيرة القريبة ومراقبة منسوبها فى السنوات القليلة الماضية.
ما يحدث فى المياه الجوفية فى منطقة الفسطاط وعين الصيرة ومناطق أخرى كثيرة فى مصر له علاقة بفقدان التوازن الهش فى منظومة المياه الطبيعية، والتى استقرت عبر آلاف وربما مئات الآلاف من السنين، وتعلمنا حديثا أن الأنشطة البشرية المتسارعة خاصة منذ الثورة الصناعية تهدد هذا التوازن الطبيعى بشدة. ونعرف أيضا من تاريخ نشأة ونمو العمران فى مصر ومدن أخرى فى الشرق الأوسط، كما يشرح جميل أكبر فى كتابه «كارثة فى البيئة المشيدة» كيف أن تلك المدن هى محصلة ونتيجة لتراكم آلاف القرارات والأفعال الصغيرة عبر عشرات وربما مئات السنين، وأن هذه العملية التى كان يحكمها مبادئ مثل «لا ضرر ولا ضرار» هى ما أنتجت هذا «السلام والسكينة» كما يقول سيد حسين نصر فى رؤيته لخصائص تلك المدن.
ما أخشاه أن المشروع يحاول أن يصنع صورة أخرى من مشروع حديقة الأزهر. وبالرغم من أنى أكن معزة لحديقة الأزهر وغالبا ما أستضيف فيها بعضا من ضيوفى، ولكن استوقفنى ما قاله أحد أصدقائى الأستاذ والمعمارى الإيطالى الكبير ريناتو ريتزى عن أن الحديقة خضراء بصورة زائدة. وبعد تفكير قليل لم أستطع إلا أن أوافقه، فعلى حدود الصحراء التاريخية والعمران المتراكم ربما نحتاج إلى معدل معقول من الاخضرار ولكن ليس كل هذا الاخضرار، لأن الماء ليس موجودا بصورة طبيعية والتأثيرات الجانبية لجلب وصرف الماء بصورة صناعية هى فى الغالب مضرة. وعندما ننظر لحجم الأموال التى تم إنفاقها عليها والتى تزيد على ثلاثين مليون دولار فى أوائل هذا القرن (تم افتتاحها فى سنة 2004 ولكن الفكرة والتصميمات الأولية بدأت من أواخر الثمانينيات وهى تبرع من مؤسسة الأغاخان) وبالرغم من أهمية الحديقة التى أصبحت مقصدا رئيسيا لمواطنى ومواطنات مدينة القاهرة، فإنه من منظور آخر كان بالإمكان عمل حديقة أو متنزه أكثر ملاءمة للظروف الطبيعية، ويمكن مثلا التعلم من الحديقة التى صممها مصمم المواقع الألمانى أودو بيكر فى منطقة الدرعية بالرياض وحازت على جائزة الأغاخان كمثال لحديقة تراعى الظروف الطبيعية وفى نفس الوقت توفر متنزها رائعا لأفراد المجتمع المختلفين. كل هذا وأنا أعرف كم استغرقت هذه الحديقة من وقت فى التصميم والتجارب السابقة للتنفيذ على النباتات والمجهودات الأخرى قبل أن يتم البدء فى البناء.
• • •
كتب كارل هونور فى كتابه «فى مدح البطء» إنه ثورة ثقافية ضد مفهوم أن الأسرع دائما أحسن. فلسفة البطء ليست مع عمل كل شىء بسرعة السلحفاة. إنها عن السعى لعمل كل شىء بالسرعة المناسبة. تستمتع بالساعات والدقائق بدلا من عدهم. عمل كل شىء بأحسن صورة ممكنة، بدلا من بأسرع صورة ممكنة. إنها عن الجودة فى كل شىء من العمل، إلى الأكل، إلى الأبوة.
أتمنى أن يراجع المسئولون مشروع تلال الفسطاط وأن يقيموا حوله نقاشا عاما جديا لتحقيق المصلحة العامة وحتى نضيف مكانا عام ذا جودة عالية لمنطقة وأناس لاشك أنهم يستحقون الأفضل.
توضح الصورة المأخوذة من بحث الأساتذة ناجى على حسن وأحمد قطب وأحمد على ومنى هجرس، خطوط الكونتور (بالأزرق) التى توضح مدى انخفاض منطقة الفسطاط