نشرت جريدة الأيام الفلسطينية، مقالا للكاتب على الجرباوى نعرض منه ما يلى:
لم يكن متوقعا ما أصاب العالم من اجتياح وبائى لا يُعرف متى سيتم السيطرة عليه، وهو ما أدى إلى إثارة حالة مستشرية من الهلع العام نتيجة فقدان السيطرة على مقادير الأمور، وخروج مجرى الحياة عن مسارها الاعتيادى «المريح» والمألوف للبشرية بشكل عام. هذه حرب ضروس، غير متكافئة حتى الآن، يخوضها البشر ضد عدوٍ فيروسى غير مرئى، لا تُعرف شيفرته ومسارات انتشاره، ما يزيد من حالة التوجس والبلبلة، ويُصعد من حدة وضعية عدم اليقين التى يواجهها الناس، أفرادا ومجتمعات، ويُصعب قدرة المجابهة على الدول والحكومات. إنها حالة فريدة لم يمر بها العالم منذ قرنٍ من الزمن، وسيكون لها، بعد انتهاء المحنة، الكثير من التداعيات.
***
يستطيع المتابع للأحداث ملاحظة بداية تشكل إرهاصات لما يمكن أن تكون عليه هذه التداعيات على الحياة البشرية المنظمة فى المستقبل، داخل الدول وبين الدول. هذه الإرهاصات لا تتبلور حاليا على شكل حقائق حتمية واجبة الحدوث فى المستقبل، وإنما تتفاعل على شكل احتمالات ناتجة عن الكيفية التى يتم بموجبها مواجهة هذا الوباء، وما سيتركه ذلك على سياقات الحياة البشرية وكيفية تنظيمها، أو إعادة تنظيمها، بين الأفراد، والمجتمعات، والدول، وعلى الصعيد الدولى. ولأغراض هذا المقال سأركز على مجالين أساسيين ستترك محنة هذا الوباء آثارا مهمة عليهما، وهما مجال العلاقة بين المجتمع والدولة، ومجال العلاقات الدولية والنظام الدولى.
***
داخل الدولة: من المتوقع أن يتمحور النقاش والحراك السياسى بعد انتهاء محنة وباء كورونا داخل الدول حول ثلاث قضايا مركزية، بدأت إرهاصاتها تظهر منذ الآن، وسيكون لنتائجها الأثر الأهم فى إعادة تشكيل العلاقة المستقبلية بين المجتمعات ودولها. وهذه القضايا هى:
(1) دور الدولة: أنتجت المواجهة العالمية مع وباء كورونا تعاظما فى دور الدولة، ممثلة بالحكومة، وازديادا ملحوظا فى تدخلها فى معظم الجوانب المتعلقة بتنظيم الحياة المجتمعية، والتى كانت فى الكثير من الدول الديمقراطية، وحتى شبه الديمقراطية، أمرا متروكا لتنظيم المجتمع لنفسه بنفسه. فضرورة مكافحة الوباء جعلت الحكومات تصبح مصدر التعليمات التى على المجتمع وأفراده ضرورة الانصياع لها. ويُخشى أنه كلما امتدت فترة الطوارئ، اعتادت الحكومات على تصرفاتها التدخلية، وهو ما قد يؤدى إلى تكريس سلب حقوق وحريات فردية وجماعية، وتحويل المجتمع إلى مجرد تابع لسلطة الدولة، يأتمر بأمرها وينفذ تعليماتها. بالتأكيد سيدور نقاش، ومعه حراك، سياسى مستقبلى حول حدود دور الدولة ومدى تدخلها فى حياة الأفراد والمجتمع، وسيؤدى ذلك إلى إعادة تعريف وظائف الدولة وتحديد الحيز المناسب لنطاق عملها.
(2) نوع النظام السياسى: كما سيدور نقاش حول ماهية النظام السياسى الواجب الاتباع، وستتم المفاضلة بين أنواع النظم السياسية، وخصوصا بين النظامين الديمقراطى والتوتاليتارى. الناس فى كل مكان تراقب نجاعة هذه النظم وأداءها فى مواجهة الوباء، وتفاضل بينها. هل النظام الصينى هو الأفضل، وذلك لقدرته الفائقة على التصرف بحزم ومحاصرة الوباء والتمكن من السيطرة على انتشاره؟ أم أن النظم الغربية هى الأفضل كونها اتبعت أسلوب الإقناع فى حشد التأييد المجتمعى لخطواتها فى المواجهة، حتى وإن احتاجت وقتا أطول؟ هل الأمن المجتمعى يتفوق كأولوية على الحرية الفردية، أم أن الأولوية للفرد على المجتمع؟ هذه المفاضلة ستستمر وقد تتوسع فى المستقبل، وسيكون لها ارتداداتها العملية.
(3) توزيع المصادر: سيكون هذا مجالا حيويا للنقاش والحراك السياسى فى المستقبل. فهناك دول، كالصين وكوريا الجنوبية أظهرت قدرة واستعدادا كبيرين فى مواجهة الوباء، بينما تداعت الأنظمة الصحية لدول غربية، على رأسها الولايات المتحدة، أقوى دول العالم عسكريا واقتصاديا، والتى لم تتمكن حتى الآن من توفير المستلزمات الضرورية لمرافقها الصحية. كيف يتم توزيع المصادر فى الدولة، وعلى ماذا تُصرف الأموال؟ سيكون هناك دعوات قوية على إعادة الاهتمام بمجالات حيوية للحياة المجتمعية، كالصحة والتعليم والبحث العلمى، وإعطائها الأولوية على إهدار الأموال على التسلح الفائض عن الحاجة، مثلا. الحكومات المقصرة فى الاستعداد ستخضع لانتقادات مجتمعية حادة، وقد ينجم عن ذلك تغيير سلم الأولويات، وقد نشهد تغيير حكومات (الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة ستكون أحد أهم هذه الامتحانات).
***
الصعيد الدولى: أما على صعيد العلاقات الدولية وبنية النظام الدولى فمن المتوقع أن يتمحور الاهتمام على قضيتين أساسيتين هما:
(1) الحمائية مقابل الاعتمادية: نحن نعيش الآن فى عالم معولم، منفتح على التجارة الحرة وانسياب الأفراد بدرجة عالية من الحرية. وأساس الاقتصاد العالمى الآن هو التخصصية وتقسيم العمل بين جهات متعددة، ما يعنى أن سلاسل التوريد ممتدة وقاطعة للحدود. ما يُستهلك فى مكان على الأغلب يكون أُنتجَ فى مكان آخر، ومن خلال عملية تجميع تكاملية لأجزاء قد تكون مصنعة فى أماكن مختلفة أخرى.
لقد أدت محنة مواجهة وباء الكورونا حتى الآن إلى إغلاق حدود الدول على بعضها البعض، وإيقاف جل حركة التنقل، وخصوصا بالطائرات، وتقليص كبير فى حجم التجارة الدولية. لقد انكفأت الدول على ذاتها، وبدأت بحصر اهتماماتها بتأمين أمن مجتمعاتها، ما عزز التوجهات القومية الانغلاقية على انفتاحية العولمة التى كان العالم معتادا عليها حتى الآن. مع هذا التحول بدأت تبرز نزعات أنانية تؤْثر المصلحة الذاتية للدول على أهمية التعاون فيما بينها. هذا ما يُستدل عليه من محدودية المساعدة الأوروبية لإيطاليا على سبيل المثال. فقد أصبح متداولا ومقبولا أن كل دولة عليها الاهتمام بنفسها، والاحتفاظ بمقدراتها درءا واستعدادا للمجهول الذى قد يطرأ عليها فى المستقبل. فمنذ الآن ستصبح إمكانية انتشار جائحة وبائية جديدة فى المستقبل أمرا محتملا يدخل فى حسابات الدول واستعداداتها للطوارئ المستجدة.
سيحتدم فى مستقبل الأيام النقاش بين أطراف سياسية ذات توجهات مختلفة، وفى دول عديدة، خاصة الدول الكبرى، حول الجدوى من المسارين: هل الأفضل الانغلاق على الذات، أم استمرار الاعتمادية والانفتاح على الغير؟ ستركز وجهة النظر الأولى على أهمية وضرورة الاهتمام بالذات، إذ أثبتت المحنة الحالية أن التعويل على الآخرين ليس مضمون النتائج. سيؤكد أصحاب هذا الموقف على ضرورة حماية الدولة وحدودها، وتقليص الهجرة لها إلا بشروطها ولمصلحتها. وقد يذهب الأمر حتى إلى الطلب من الزائرين لها إبراز شهادات طبية معتمدة قبل السماح لهم بالدخول إلى أراضيها. وسيصر هؤلاء على ضرورة العودة إلى هيكلة الاقتصاد ليتمركز قدر الإمكان فى الداخل، لتقليص سلاسل التوريد إلى الحدود الدنيا. وسيدفع هؤلاء بفكرة ضرورة الاحتفاظ بمخزون من الاحتياجات الاستراتيجية، وتصنيعها محليا كى لا تقع الدولة أسيرة لغيرها. وبالطبع، سيكون متوقعا أن يدعم أصحاب هذا التوجه الانعزالى تقنين المشاركة فى الهيئات الإقليمية والدولية، وفى مساعى حل النزاعات على هذين الصعيدين، وسيدعون إلى تخفيض المساعدات الدولية، وتقليص العون للدول الهشة. باختصار، من الممكن أن تزداد قوة القوى المناهضة للعولمة، وأن يتصاعد نفوذ الشعبوية واليمين المتطرف فى أرجاء متعددة من العالم.
بالمقابل، سيُصر مؤيدو الانفتاح على العالم الخارجى على ضرورة استمرار هذا التوجه، بل وسيؤكدون على أن الأمر لم يعد خيارا متاحا للدول. فالعولمة أصبحت أمرا نافذا ومقضيا، ومن يعزل نفسه، بالنسبة لهم، سيكون من الخاسرين. فبُنية الاقتصاد الدولى وتركيبة العلاقات الدولية أصبحت اعتمادية متداخلة على بعضها البعض، ولا يمكن، ولا يوجد أى استفادة، من محاولة إعادة العجلة إلى الوراء. بل العكس، فإن التعاون الدولى أصبح أكثر أهمية وضرورية جراء ما يمر به العالم من كوراث طبيعية وجوائح وبائية. وستجد الدول أن قدراتها الذاتية، مهما تعاظمت، ليست كافية لوحدها لمواجهة هذه الكوارث والجوائح، وأن عليها الانفتاح على بعضها، ومساعدة بعضها البعض للنجاح فى تخطى الأزمات. فما يصيب دولة هشة، مثل انتشار وباء فيها، سيصل بالتأكيد إلى دول أقوى منها، إذ لا حصانة مضمونة لأحد. هذا ما أثبتته محنة العالم بوباء كورونا. وسيُصر هؤلاء على أن قضايا دولية مثل الانحباس الحرارى والهجرة والتسلح وانتشار الأمراض والأوبئة يجب معالجتها بالتضامن والتكاتف الدولى، مع المنظمات الدولية والمؤسسات غير الحكومية. فالعالم المفتوح على بعضه لا يمكن ولا فائدة تُرجى، من إعادة إغلاقه.
(2) انتقال مركز النظام الدولى نحو الشرق: سنجد من آثار محنة العالم حاليا أن الولايات المتحدة، بنزعة ترامب العدائية، تراكم الخسارات على الصعيد الدولى، وتشهد تراجعا فى مكانتها المتصدرة حاليا للنظام الدولى أحادى القطبية. بالمقابل، فإن الصين تراكم نجاحات فى سجل علاقاتها الدولية. وما المساعدات الطبية التى تقدمها حاليا لدولٍ أخرى، مثل إيطاليا وصربيا، إلا دليل على ذلك. يبدو أن الصعود الصينى المستمر على الواجهة الدولية سيأخذ دفعة إيجابية من المحنة العالمية الحالية، وقد يعزز من مكانة الصين الدولية. فالنظرة من الخارج للصين إيجابية وتزداد إعجابا بالتصرفات الصينية على الصعيدين الداخلى والخارجى معا. وهذا الرصيد المتصاعد سيدعم موقع الصين ومن الممكن أن يُسرع من تحول النظام الدولى إلى التعددية القطبية، إن لم يكن إلى الثنائية القطبية. سيولى المتخصصون فى مجال العلاقات الدولية اهتماما خاصا لمتابعة هذه الإمكانية.
***
لا يزال الوقت مبكرا للتنبؤ بالكيفية التى ستُحسم عليها هذه القضايا. ولكن المؤكد أن جائحة وباء كورونا ستفتح أبواب المستقبل لنقاش وحراك على الصعيد السياسى فى العالم، ما قد يؤدى إلى تحولات، على مستوى الدول، وبينها.
قد تكون هذه الجائحة هى البوابة لتغيراتٍ آتية.
لقراءة النص الأصلي