كيف رأى من سبقنى العالم خلال الحرب العالمية الثانية مثلا؟ كيف وصلت أخبار الجبهة للناس وكيف تفاعلوا معها؟ كيف اصطفت الشعوب؟ هل وقفت مع الحكام حصرا؟ هناك الكثير من الأفلام التى تروى مفاصل الحرب وينتقل التصوير فيها بين الأبيض والأسود والألوان. أفلام وثائقية وروائية وصور وأعمدة مقصوصة من صحف قديمة تشكل ذاكرة جماعية أو عدة ذاكرات حسب الاصطفافات.
• • •
أحاول أحيانا أن أرمى بنقاشات اليوم إلى المستقبل وأتخيل ما سيجمعه الناس من بقايا نقاشات جلها محتدم حول الأزمات المختلفة التى تعصف بالعالم منذ أكثر من عشر سنوات فى ظل قنوات مفتوحة تماما رغم أيادٍ تنقض على الأفواه، لكن يمكن القول إن أحداث السنوات الأخيرة دارت تقريبا داخل البيوت بشكل حى ومباشر بفضل القنوات الفضائية وشبكات التواصل الاجتماعى التى جعلت من الجميع مراقبين ومعلقين وهو شىء أنا عن نفسى أرحب به كثيرا.
• • •
أتساءل كيف سيعود أولادى إلى اليوم بعد سنوات وما سيقولون عن مرحلة رأونا فيها، أى أنا ووالدهم، مشغولين بالشأن العام نمضى معظم وقتنا نناقش السياسة ونحن منفعلون والأصدقاء منخرطون معنا والآراء تتصادم أحيانا فتتعثر الصداقات وتنشأ غيرها على أسس الاتفاق فى السياسة. كيف نختلف اليوم عمن سبقونا فى نقاشاتهم واحتدامهم؟ أم تراهم كانوا أكثر توافقا بسبب أوضاع إقليمية جمعتهم أكثر مما تجمعنا الأوضاع اليوم؟
• • •
أذكر نقاشات طويلة كنت أسمعها من سريرى وأنا طفلة ومراهقة أجبرها والداها على النوم بينما استمرا هما فى الحديث مع من رافقوهم فى سنوات يبدو لى أننى أكررها اليوم مع زوجى وأولادى المرغمين على النوم بينما يحتدم النقاش مع الأصدقاء فى غرفة المعيشة.
• • •
هل تنتهى السياسة؟ أظن أننا ننتهى ولا تنتهى السياسة! اليوم، ومع شبكات التواصل الاجتماعى، السياسة فى كل مكان وفى متناول أيادى الجميع، وهذا شىء عظيم. أتابع أحيانا نقاشات قد لا تبدو سياسية فى أول الأمر، كأن يناقش سكان الحى مشاكل يريدون لها حلا جماعيا فأكتشف بسرعة أن لا حل بعيدا عن السياسة، فكيف نناقش مشاكل بنيوية مثلا دون التطرق إلى الفساد الذى سمح بسوء البناء؟ أو حين نناقش فى مجموعات ضرورة مساعدة من هم أكثر عوزا، وهو نقاش إنسانى بحت ينشط فى مواسم كموسم شهر رمضان ثم نتساءل مع إعلانات التلفزيون فى الشهر المبارك إن كان على المشاهد أن يتحمل دور يفترض أنه دور الدولة مثل مد شبكات المياه النظيفة والصرف الصحى فى مناطق نائية. ها هو النقاش يتحول إلى السياسة من جديد.
• • •
أفكر بوالدى ومن هم بعمره، وأدعو أن يطيل الله بأعمارهم وأنا أتساءل كيف يهضمون كمية التغييرات التى عاصروها؟ تخيلوا معى أنهم، أى والدى ومن بعمره، قد عاشوا من الأبيض والأسود إلى الإنتاج الرقمى! من خط هاتف المقسم إلى الهاتف الذكى! من مسلسلات الراديو إلى شبكة نتفليكس. هم أيضا خاضوا صراعات مع حكامهم ومع من حولهم من الأصدقاء والزملاء والمعارف أثرت على حياتهم وأحيانا على أمنهم الشخصى وسلامتهم.
• • •
لا جديد إذا؟ هل هذه هى الخلاصة بعد سنوات من العراك الثقافى والسياسى التهم موائد عديدة فردتها أمام أصدقائى؟ يبدو أن الحياة فعلا لا تتوقف أمام ما يبدو فى حينه أنه قد يوقف الدنيا. قال لى أخى أخيرا، بعد رحيل إحدى الصديقات إلى العالم الآخر، قال إن أكثر ما استوقفه أنها دفنت تحت التراب وعاد الجميع إلى بيوتهم لتفقد حياتهم. نعم تستمر الحياة وأظن أن أولادى سوف يتعاركون هم الآخرون مع أصدقائهم حول الشأن العام والسياسة والمناخ وأمور أخرى. سوف يتذكرون أنهم سمعوا أصواتنا وهم فى غرف النوم.
• • •
بالأمس قلت لصديق إننى أتمنى ألا ينخرط أولادى كثيرا بالشأن العام، أى أتمنى أن يهتموا بما حولهم ويدافعوا عن مبادئ عامة حول المساواة والعدالة فى المجتمع لكن دون أن يلتهمهم النقاش والعمل العام. أنا لا أعرف ما سينتج عن أولادى لكنى أرانا وكأننا ندور فى عجلة كبيرة كعجلة مدينة الملاهى، نركب مقصورة ركبها الأهل من قبلنا وارتفعوا حتى ظنوا أنهم فى القمة، ثم عادوا أدراجهم وارتطمت أقدامهم بالأرض. ها أنا أنزل ببطء وأرى أطفالى ينتظرون دورهم. أبقى فى مقصورتى وأراهم يركبون فى أخرى. تبدأ دور جديدة، تكتمل ثم تتوقف فأنزل ويبقون هم، أى أولادى، ليرتفعوا نحو ما سوف يظنوه القمة.
• • •
أنا أراقبهم من على الأرض كما راقبنى والدى أرتفع وأعود. ها أنا إذا أقف مع والدى بعد رحلتى ونراقب معا أولادى يرتفعون. كيف سيتذكرون هذه الفترة؟ أتمنى أن يأتى اليوم الذى أستمع إليهم يصفونها، قد يعطينى ذلك ما أحتاجه ولا أجده اليوم من مسافة تساعدنى على إطفاء بعضا من غضبى. قد أقول لهم، كما يقول أبى «هذا كله سوف يمر».