نشر موقع 180 مقالا للكاتب الإيرانى محمد صالح صدقيان، يقول فيه إننا أمام تبلور نظام إقليمى جديد أو على الأقل نشهد إرهاصات ميلاد هذا النظام، متناولا صفقة التصالح بين السعودية وإيران والتطورات التى رافقتها؛ كزيارة الأسد للإمارات وزيارة وفد سعودى لصنعاء خارج إطار المبعوث الأمريكى لليمن. إلا أن الكاتب لا يؤمن بوجهة النظر القائلة بأفول النجم الأمريكى فى منطقة الشرق الأوسط، فمازالت واشنطن المسيطرة أمنيا وسياسيا واقتصاديا... نعرض من المقال ما يلى:خلال وداع نظيره الروسى فلاديمير بوتين، قال الرئيس الصينى شى جين بينج الذى زار موسكو فى العشرين من شهر مارس الماضى إن هناك تغييرات «لم تحدث منذ مائة عام.. عندما نكون معا فإننا نقود هذه التغييرات». هذه العبارة قالها بينج وهو يهم بالخروج من ضيافة نظيره الروسى وهو يعلم ما الذى يُكتب للعالم الجديد.
للمرة الأولى منذ عقود نسمع بمبادرة صينية فى منطقتنا طرحها الرئيس الصينى للتقارب السعودى ــ الإيرانى. مبادرة ناجحة وافق عليها البلدان أدت حتى الآن إلی لقاءين. الأول، أمنى بامتياز بين أكبر مسئولين أمنيين فى كل من الرياض وطهران؛ والثانى، سياسى بامتياز بين وزيرى خارجية البلدين لإعادة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة منذ العام 2016. وكلا اللقاءين كانا فى بكين!
ومنذ توقيع الاتفاق السعودى ـ الإيرانى حتی اليوم، شهدت المنطقة تطورات متسارعة غير متوقعة، أو علی الأقل، أدهشت المراقبين بسرعتها ومستواها: زيارة الرئيس السورى بشار الأسد الرسمية إلی الإمارات. زيارة وزير الخارجية السورى فيصل المقداد إلى الرياض وقيام نظيره السعودى فيصل بن فرحان بزيارة دمشق. ثمة معلومات تتحدث عن دعوة ربما تُوجه للرئيس السورى لزيارة السعودية أو للمشاركة فى مؤتمر القمة العربية الشهر المقبل. زيارة وفد سعودى إلى صنعاء واجتماعه بقادة فى حركة أنصار الله الحوثية المحظورة سعوديا وحديث عن الاتفاق علی أجندة تفاهمات لإنهاء الحرب اليمنية والذهاب إلى تفاهم يمنى ـ يمنى بمساعدة إيرانية ـ عُمانية مشتركة.
فى الكفة الأخری؛ شكّلت تصريحات الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون عقب زيارته إلى بكين علامة فارقة لم نسمع بها من قبل حيال العملة الأمريكية والقرار الأوروبى والهيمنة الأمريكية وملف حلف شمال الاطلسى (الناتو).
ما هى مآلات هذه التطورات؟ وهل حدودها إقليمية بحتة؟ أم أنها امتداد لتطورات دولية؟
أنا لا أنسجم مع التصور القائل بأفول النجم الأمريكى لأن واشنطن ما زالت تمتلك عوامل القوة فى الاقتصاد والسياسة والأمن؛ لكن الأكيد أنها لم تعد كما كانت فى ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضى. وهذه الإرهاصات التى نلمسها حاليا فى السياسة والاقتصاد والأمن فى مواقع متعددة من العالم هى من تداعيات الانحدار فى الدور الأمريكى. البعض يعتقد أن مرد ذلك يرجع إلی ضعف حكومة الرئيس جو بايدن. هذا صحيح لكن يجب علينا التذكير أن الرئيس السابق دونالد ترامب، برغم خطابه الشعبوى، قرر قبل سنوات السكوت أو التغاضی عن استهداف الإيرانيين طائرة أمريكية فى مضيق هرمز من دون أن يرد عليهم.
ولعل الاعتقاد السائد أن واشنطن ما زالت تملك من عناصر القوة ما يجعلها تفرض هيمنتها علی العالم كما تفعل حاليا مع أوروبا؛ لكن موقف ماكرون بعد زيارته للصين أظهر أن السياسة الأمريكية مع أوروبا لا يمكن أن تستمر فى السياق التاريخى نفسه لأنها لم تعد اللاعب الوحيد فى العالم.
ومن يُراقب حركة الجسد وتفاصيل الاستقبال الذى أقامه ولى العهد السعودى محمد بن سلمان للرئيس الأمريكى عند مدخل قصر المؤتمرات فى جدة، وما أعقب ذلك من تطورات على صعيد العلاقة الأمريكية السعودية، يخلص إلى أن السعودية قررت ــ بألطف تعبير ــ أن تتمايز عن الموقف الأمريكى، إن لم تكن تريد أن تذهب أبعد من ذلك بكثير، فإعادة العلاقات مع ايران، برغم العقوبات الأمريكية؛ واستقبال وزير خارجية سوريا، برغم عقوبات قانون قيصر الأمريكية والذهاب إلى صنعاء خارج إطار المبعوث الأمريكى فى الشأن اليمنى، هذه كلها تشى أن الرياض قرأت الفاتحة علی (صفقة قرن) جديدة مع طهران فى مجلس لم تحضره واشنطن!
هل نحن أمام تبلور نظام إقليمى جديد؟ أعتقد نعم. وإذا لم يكن كذلك فالأكيد أنها إرهاصات هذا النظام بعدما أدرك اللاعبون فى المنطقة أن وضع كل البيض فى السلة الأمريكية عملية لا يمكن المراهنة عليها؛ وأن التفاهمات الإقليمية مهما كانت ضريبتها، فإنها تبقى أفضل الخيارات لتعزيز الاستقرار فى المنطقة.
النص الأصلى: