هى ليست حكايتى وحدى بل بعض مما عاشه أهل بيروت ولبنان فى ذاك المساء المغمس بالموت.. ليست رواية شخصية بل ربما سرد جماعى ولا تزال المشاهد تتداعى.
***
السادسة مساءً والنهار يوشك أن يستعد ليوم آخر.. المدينة تتثاءب ولكنها بيروت التى تتقن فن العيش.. الشباب يستعد للخروج والشابات أمام المرايا يضعن اللمسات الأخيرة.. «هناك حريق فى بيت الوسط» أخى يقرأ شريط الأخبار على شاشة التلفاز.. لحظات هى أو هكذا تبدو الآن.
«هناك دخان أبيض صاعد من المرفـأ المقابل للعمارة التى نسكنها.. يأتى صوت أخى.. أتحرك سريعا باتجاه البلكونة المغلقة بالزجاج كحال كل بلكونات العمارة.. أحمل هاتفى «لا ليس حريقا، ليس حريقا الدخان الأبيض يعلو.. حشريتى الصحفية لم تمت أبدا أعرف ذلك.. قلت «تأكد هل شريط الأخبار يذكر حريقا أم؟».
أنا متقدمة باتجاه البلكونة المغلفة بالزجاج وهو خلفى ربما بخطوتين.. من هنا تنتهى روايتى وتتحول إلى خليط من السرد الجماعى لحكاية اغتيال مدينة بل اغتيال بلد.
***
صرخة ضعيفة «آه آه». بعد صوت الانفجار.. يتحول فضاء المكان إلى كم من الزجاج المتطاير. والغبرة البيضاء.
نسيت أننى فى ذاك المساء أصررت على «عماش» الشاب الذى قدم من دير الزور قبل أكثر من عشرين عاما حارسا للمبنى الذى سكنته. حينها بقى الرابط متواصلا. انتقلت إلى شقق عدة فى بيروت. وبقى هو حارسى الذى ألجأ إليه كلما احتجت للمساعدة.. ككل الديرية، أى أهل دير الزور، يبقى الوفاء رابطا مقدسا.
كان جالسا بين جدارين يفك زرار النور فى غرفة نوم أختى.. حصل الانفجار وهو هناك. لم يصب. خرج يجرى بين الدخان الأبيض ورذاذ الزجاج. وجد أخى واقفا فى الصالون ينزف دما من رأسه ووجهه. جرى الاثنان للبحث عنى، بدأ يصرخ بعد عدم وجودى كعادتى خلف المكتب الذى تحطم بالكامل وطار الزجاج من أمامه فسقط الكثير من الأوراق وغيرها من الطابق الرابع.
***
«الحجة سقطت... الحجة راحت» كان ينادينى بالحجة بسخريته ولكنه الآن يبكى، ينوح، مستمر فى الصراخ. ينهره أخى ويجرى للبحث بين الدخان الأبيض والزجاج. يبدأ الغبار الأبيض والزجاج فى النزول ببطئ نحو أرض الشقة المغطاة بحطام كل ما كان بها.
ببطئ تتضح الصورة أو تتجلى على حجم الدمار.. يسمع صوت أنين قريب من مائدة الطعام، يجرى الاثنان نحو مصدر الصوت هناك. يجدونى مستلقية على ظهرى حيث رمانى الانفجار مغطاة بالدم من رأسى حتى آخر أصبع فى رجلى. عيناى مفتوحتان.. الآن فقط وبعد أكثر من أسبوعين أعرف أننى ربما رحلت وعدت، غبت عن الوعى للحظات.
***
يعود الديرى للصراخ من خوفه. «ماتت الحجة.. راحت الحجة». ينهره أخى، يربط رأسه بقطعة قماش أو فوطة ويحملنى. «عماش» الذى لا يعرف حتى الآن من أين أتته القوة لحملى.. يجريان، لا حاجة لفتح باب المطبخ المؤدى إلى درج الخدمات فقد كان مشرعا، أى مخلوعا، كما كل الأبواب الأخرى وكل شيء فى ذاك المكان الذى كان بيتى.
يجريان على السلم بين صراخ الأطفال والمربيات. فالمساء لا يزال فى أوله وكثير من السكان لم يعودوا بعد إلى بيوتهم. فقط الأطفال. كثير منهم والمربيات من جنسيات مختلفة.
***
عند الطابق الثانى طلبت أن ينزلنى وقلت له بصوت بالكاد يسمع «لا تصرخ.. لا تصرخ» قال لى بعدها أنه لم يكن هو الذى يصرخ. أفزعته كمية الدماء فرفعنى مرة أخرى وجرى بى حيث وصلنا لمدخل البناية والحراس يجرون لتقديم المساعدة للهاربين من ذاك الجحيم. الشارع مليء بالحطام والصريخ. المستشفى المقابل لعمارتنا قد تحول إلى حطام وجرت الممرضات بالمريضات والمرضى إلى الخارج وضعوهم على الأرصفة المجاورة محاولين إنقاذهم.
لا عربة إسعاف توقفت لنا رغم محاولات الديرى ولا عربات أخرى فكلها كانت مكتظة بالجرحى.. الدم فى كل مكان والهلع على الوجوه. حتى تلك اللحظة لم يكن الكثيرون قد عرفوا ما الذى حدث.. قصف طيران إسرائيلى أم سيارة مفخخة أم تفجير موكب أحد السياسيين أم أم.. كلها سيناريوهات اعتادها اللبنانيون.
***
أطلب أن أحاول المشى يرفض حاملى فى البداية ثم ينزلنى، يعطينى أخى حذاءه فيبقى هو حافى القدمين فوق طرقات عبِّدت بالزجاج الذى سيسكن قدمه للأيام بل الأسابيع التى تلت الانفجار.
شارع الجميزة الرئيسى ليس أفضل من شارع باستور حيث كنا.. الفوضى والصراخ والدم والمسعفين من الممرضين والمدنيين غير قادرين على أخذ الجميع.. جميع الجرحى.
تطلع هو حولنا حاول مع كثير من العربات وسيارات الإسعاف.. كلها فتحت أبوابها ورصت الجرحى فوق بعضهم.
كنا مقابل درج الجميزة المؤدى صعودا إلى سرسق.. قال هو ما لنا إلا أن نصعد السلم.. كيف صعدته أنا وأخى ودمنا يتطاير؟ عند قصر سرسق الفوضى والخوف على كل الوجوه.. يبدو أن رعبهم يزداد كلما رأونا نحن القادمون من الصفوف الأمامية المقابلة للـ «البور» ميناء بيروت.
***
تمر دراجة نارية.. يوقفها الديرى.. منقذى. السائق أخذنا إلى المشفى فيضعنى فى صندوق البضائع ويركب هو خلف السائق أما أخى فكان عليه أن يتبعنا مشيا حتى أقرب مشفى.. كان المستشفى الأقرب قد دمر هو الآخر.. انتقلنا إلى المشفى الأكبر فى منطقتنا.. أنزلنى من صندوق البضائع. حيث تكومت وجرى بى نحو الطوارئ حيث رفضوا استقبالنا وكثير من الجرحى الآخرين.. قالوا ليست لدينا أى قدرة استيعابية، اذهبوا لمستشفى آخر.. كنت قد نزفت الكثير من الدم. وبدأت أشعر ببعض الدوخان.. اتصل بأخيه الذى حضر على دراجته النارية، فالشوارع مكتظة بالقتلى والجرحى.
خلفه صعدت وإلى المستشفى الأقرب الذى رفضنا فى البدء لنفس الأسباب، ثم اضطرت تلك الممرضة ربما لإسكاته بعد أن صرخ فيها بل فيهم: «إنها تنزف منذ مدة لازم تاخذوها لازم».. أدخلونى حيث ارتمت جثث الجرحى فى ذاك الممر. يوحدنا الألم. ويجمعنا الدم.. كثير منه على الجدران وفى المصاعد وأزرارها.. كلها أخذت اللون الأحمر القانى.. حضرت صديقتى الأجمل وجاء بعدها أخى أيضا بعد. مغامرة البحث عنى فى المستشفيات.. انقطعت الاتصالات لفترة فقد كثير من اللبنانيين تواصلهم وتفقدهم لبعضهم البعض.
***
ربما كنت محظوظة فقد وجدوا لى غرفة صغيرة وسرير ألقى بنفسى فوقه.. قالت لى تلك الطبيبة الشابة رائعة الجمال الروحى إنها دخلت الغرفة لتجدنى مستلقية على السرير مغطاة بدمى دون أن يصدر عنى أى صوت.. تقول إنها سألتنى «جى طبيب شافك؟»، قلت لها لا.. بعدها بثلاثة أسابيع سألتنى عن سبب هدوئى وعدم طلبى أن تعطى لى الأولوية وأن يفحصنى مختص خاصة أن الزجاج كان حول عينى ويدى اليسرى فُتحت على مصراعيها ووووو.. قلت لها ربما لخجلى من نفسى أمام الأرواح البريئة التى رحلت والأطفال وللشباب الذين فقدوا أعينهم أو أطرافهم وكبار السن وفقراء هذه المدينة المنكوبة الذين وجدوا أنفسهم على حافة الطرق.
ستقوم تلك الطبيبة الشابة بـ «تكبيس جروحى وجروح أخى لإيقاف النزيف وتربط يدى بالشاش وتقول غرف العمليات مكتظة وعلينا الانتظار.. فى اليوم التالى أجريت العمليات ليدى الاثنتين وتم معالجة وإغلاق كل الجروح بقطب سريعة من رأسى حتى قدمى، قبلها طلبت تلك الممرضة من صديقتى الرائعة أن تزيل الزجاج من حول عينى لأنهم لا يملكون الوقت وعليهم التركيز على إنقاذ حياة الكثيرين.
***
سأعرف هذه التفاصيل من هنا وهناك فى الأيام التى تلت وسأعرف أيضا أن مربية المنزل التى رافقتنى لأكثر من عشرين عاما والتى تركت بيتى فى نهاية يوم عملها متجهة إلى حيث تقيم مع صديقاتها.. عرفت أن جثتها موجودة فى مشرحة مستشفى الجامعة، فقد أصيبت بنزيف فى المخ نتيجة قوة الانفجار.. هى الفلبينية التى عشقت لبنان ورفضت تركه. سرق الانفجار رفيقة دربى كما خطف شباب وشابات لبنان وأطفاله.
فجر الانفجار محبة كبيرة فى الأيام التالية لم تتوقف رسائل السؤال والمحبة لى ولأخى من كل بقاع الأرض سأل الأصدقاء عنى وعنه وعن بيروت.. لم يكن الألم مقتصرا على جراحنا بل جراح بيروت التى كما تقول يافطات الشوارع قد ماتت وعاشت مائة مرة.
كلمات الرسائل على الواتس آب هى وحدها بحاجة أن تبقى محفورة فى ذاكرتنا لأن المحبة والحياة أقوى من الموت.