باستطاعتى أن أكتب صفحات عن دخول فصل الخريف وما يحمل معه من عواطف تنهمر فجأة من العيون مع كل نسمة صباحية باردة. باستطاعتى أيضا أن أكتب عن دخول موسم الفاعليات الثقافية وما يحمل معه من وعود من خلال الفن والموسيقى والأمسيات الشعرية. باستطاعتى طبعا أن أمضى أياما فى استعادة عادات الناس، السوريين تحديدا، وعلاقتهم بالمطبخ والمونة قبيل دخول فصل الشتاء، هذه كلها مواضيع تقتحم النقاشات الشخصية والافتراضية فى هذه الفترة من السنة.
***
لكن ما أريده فعلا هو أن أستخدم هذه المساحة لمحاولة توصيف المعجزة التى تحدث فى لبنان والعراق الآن والتى حدثت فى السودان أخيرا، أريد أن أمضى الدقائق والسطور القادمة مع الشارع فى بيروت وطرابلس وبغداد والبصرة والخرطوم، أريد أن أستعيد مع هتافات الناس هناك وأعتبره نبضى بعد أن كان نبضى قد بهت فى السنوات الأخيرة.
***
الشارع: ذلك المكان المفتوح غير محدد الملامح الذى يصرخ بأعلى صوته ضد أخطبوط التف حول الأعناق والعقول، الشارع: ذلك القلب الحى الذى قام بعد سبات أجبر عليه تحت ذرائع لم يعد يتقبلها، المعارك الكبرى التى لا تعنى شيئا لمن يخوض معاركه اليومية من أجل الإبقاء على الكرامة والحلم، كلمات فضفاضة عن الانتصار على الآخر، ذلك الآخر الذى لا يهمنى اليوم حين أحاول أن أنتصر على ذل عدم توفر فرص للعمل والنمو الفردى والجماعى، الشارع: المساحة التى اتسعت رقعتها تحت ضغط كل من ضرب الأسفلت بقدميه ومد يديه ليمسك السحاب والنجوم، الشارع هو بيت الجميع حين يغضبون، وملاذ المظلوم حين يكاد أن ينفجر، الشارع هو الورشة؛ حيث تصقل الهتافات المطالب فتخرج المطالب من الحناجر دون فلتر، الشعب يريد حياة كريمة، الناس تريد ما اتفقنا عليه منذ قرون حين تحول العالم إلى دول وحين عقدنا اتفاقات مع الحكومات: سلم واستلم! عليكم أن تسلمونا حقوقنا وتستلموا منا واجباتنا تجاه الدولة، نحن نطلب منكم أن تنوبوا عنا فى قرارات نستأمنكم على صوابها، نحن نضع فى يدكم مفتاح إدارتنا بشرط أن تسلموا المفتاح حين ينتهى دوركم، أم تراكم نسيتم الاتفاق؟
***
يبدو أنهم فعلا نسوا الاتفاق، يبدو أن جدران القصور قد شيدت لترتطم بها مطالب الناس، يبدو أن من يدخلها ينزع من رأسه أى ذكرى لاتفاقات أبرمها مع الشعب وتعهدات اتخذها فى حياة سابقة، ألا يلاحظ سكان القصور أنهم باتوا يعيشون فى طنجرة ضغط وليس فى منزل فخم تفصله حدائق وأسوار عن الشارع؟ ألا يتساءلون عن الصمت الذى يحيط بهم حيث لا يصلهم أى صوت حيث يجلسون؟ ألا يستغربون الشوارع الفارغة من الناس حين يمرون بمواكبهم أم تراهم يعتقدون فعلا أن الشوارع فسيحة والأرصفة تتسع للجميع وكل شىء فى مكانه؟
***
أتساءل كثيرا عما يحدث للعقل البشرى عند تسلم السلطة، أى سلطة. هل تتغير التركيبة الكيمائية فتتبخر من العقل السوائل المسئولة عن الاستماع والتشاور والوفاء بالالتزامات؟ هل تؤثر السلطة على التركيبة الفيزيائية للعقل فتسدل ستارا حاجبا على القلوب والعيون تمنع عنها الرؤية والإحساس؟ يقال إن للكرسى، أى كرسى السلطة، قدرة عجيبة على تغيير إطار الرؤية عند الفرد، وقد يكون فى ذلك بعض من الصحة، من فى الكرسى لا يملك بالضرورة ترف التساؤل الدائم والتشاور المستمر والاختلاف البناء، أو هكذا يقول لنا من فى السلطة!
***
ما علينا، لنعود إلى الشارع؛ حيث القلب والروح والحلم. لنعود إلى مدن لطالما ارتبط اسمها بالحروب والدم، ونرى الحياة تدب فيها من جديد. السودان، ذلك البلد المنسى الذى فقد العالم اهتمامه به منذ فقدت العدالة الدولية قدرتها على الالتفاف حول مجرم حرب ترأسه، ها هو السودان قد فرش أمامنا طرقا جديدة لم نكن نفكر فيها ولو للحظة. العراق، بلد الأنهار والنخيل والأضرحة المقدسة والحروب التى نسفت كل المقدسات: ها هو الشارع يقدس الحياة هناك من جديد ويرسل قبلة إلى كل من آمن بأن ثمة نهاية ممكنة للكابوس. ولبنان، ذلك البلد الصغير ذو القلب الكبير، قلب يتسع لكل حالم فى كل الشوارع العربية، ولكل مشكك فى قدرة الشعوب أن تعود من خلف حاجز الموت فتحيا من جديد.
***
ما يحدث فى المنطقة معجزة، وهى منطقة لطالما أعطت للعالم معجزات، معجزة البقاء على قيد الحياة داخل كماشة تلو الأخرى، فمعجزة الخروج ولو لفترات قصيرة من بين أسنان الكماشة، ثم معجزة التفنن والإبداع فى محاكاة الكماشة والهروب منها، فمعجزة العمل الجماعى العفوى ومعجزة تفجير الطاقات البشرية فى وجه الظلم. منطقة المعجزات فعلا حتى لو أدت بعض المعجزات إلى كوابيس فى بعض الأحيان. كتب علينا أن نولد فى منطقة هى مركز العالم وقلب الدنيا فماذا باستطاعتنا أن نفعل عدا أن نتمسك بالحلم ونفرشه سجادا ملونا فى شوارع مدن لا تستحق القهر والظلم والذل على يد حكامها؟ أحلامنا تفرش الشوارع ألوانا ووعودا وتعد النجوم فى الليل: نجمة لكل حلم، لأن غدا سيكون أفضل.