وقف إمام الأنبياء رافعاً يديه إلى السماء حتى سقط رداؤه من شدة مناجاته قائلاً: «اللهم نصرك الذى وعدت.. اللهم إن تهلك هذه الفئة فلن تعبد على الأرض»، فطلب من ربه النصر ولم يطلب الشهادة أو الموت حتى لو كان فى سبيل الله.. وكان صلى الله عليه وسلم لا يحب الحرب والصراع ولا الدماء ولم يخض حرباً إلا فرضت عليه أو ألجأته الظروف إليها وهو القائل «لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية».
فلم يأت الأنبياء لحشر أتباعهم وتلاميذهم إلى القبور أو السجون ولا لشحن خصومهم وأعدائهم إلى القبور أو السجون.. ولكنهم بعثوا لتعمير الكون وإيقاظ العالم من غفلته وليزيحوا الركام والران الذى طمس العقول والقلوب.
لقد جاءوا ليعلموا الناس فقه الحياة الصالحة وفلسفة الإحياء.. ويرددوا على مسامع الكون كله «وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً» ويرددوا «خيركم من طال عمره وحسن عمله».. وليس الذى قتل غيره أو قاتل فى غير ميدان أو دخل حربًا لا طائل من ورائها.. فليس خيركم الذى يقتل غيره بغير حق.. أو يقتل ويفجر نفسه فى صراع عبثى بين أبناء الوطن الواحد.
فصناعة الحياة الصالحة وفقهها شىء رائع يستحق أن يكون الأصل والأساس فى كل دعوة صالحة.. وصناعة الموت بالحق والصدق والعدل رغم شرفها هى استثناء من الأصل.. أما صناعة الموت دون جدوى أو فائدة أو خير يعود على الدين والوطن فهى العبث والمنكر والفساد بعينه.
فالإنسان كل الإنسان هو بنيان الله الذى خلقه بيده ونفخ فيه من روحه.. ومن هدم بنيان الله أغضبه سبحانه ورسله وملائكته والصالحين.. والجهاد الأعظم هو فى صنع الحياة الصالحة وتشجيع الخلق عليها ومكابدة الشدائد لإسعاد الناس بما شرعه الله بالعبادة والطاعة والمباح والحلال.. وليس الخلاص السريع من تكاليف الحياة وتبعاتها بتفجير الإنسان نفسه وغيره فى الوقت نفسه.. وتفجير نفسه فى بنى وطنه ودينه.. سواءً كانوا فى صفه السياسى أو الدينى أو العرقى أو فى الصف المناهض له.. فالبعض يريد إجبار نفسه وغيره على اختصار طريق الحياة التى لا يستطيع المصابرة على تحمل تبعاتها.
تذكرت ذلك كله وتواترت الخواطر على وجدانى وأنا أتابع واقرأ قصة الشبان الثلاثة الذين انفجرت بهم السيارة التى يستقلونها فى الإسكندرية قبل وصولهم إلى الهدف الذى يريدون، لأن صناعة المتفجرات لم تكن جيدة لتنفجر مع أى مطب أو اهتزاز، فيقتل أحدهم وهو الذى يجلس بجوار العبوة ويصاب السائق، ومن يجلس إلى جواره بإصابات خطيرة وقد وجدت رسالة مفادها «أننى أرغب فى الشهادة لأجل الشرعية والشريعة».. وقد تكرر مثل هذا الحادث فى القاهرة من قبل.
فأى شرعية بشرية غير مقدسة تختلط اختلاطًا معيبًا بالشريعة المقدسة؟.. وهل من زال حكمه منذ سنوات يمكن أن يعود؟!
وأى عطاء قدمه هذا الشباب لنفسه أو لدينه وأمته ووطنه.. وهو يفجر نفسه وغيره.
ومن ذا الذى علمه فقه الموت بلا ضابط ولا رابط قبل أن يعلمه فقه الحياة الصالحة ؟ ولماذا لم يعلمه شيوخه فقه الحب قبل الكراهية ؟ والإحياء قبل القتل؟ ورعاية الناس قبل تفجيرهم؟ والحدب على الفقير والأرملة والمسكين واليتيم قبل زرع المتفجرات من أجل صراع سياسى لا ينتهى؟.
لقد تربى هؤلاء وأمثالهم من الشباب المخلص قليل العلم على شعار «على القدس رايحين شهداء بالملايين» ولماذا لا نذهب إليها منتصرين.. لماذا بالضرورة أن يقتل الملايين منا ليسعد نتنياهو.
لقد فشلت مجتمعاتنا فى الصناعة والزراعة والبحث وصنع الحياة الجميلة الصالحة أيضاً؟ ولم تحسن سوى التربية على فقه الموت والقتل والدماء والصراع؟
وهل يملك هؤلاء الشباب أنفسهم حتى يقتلوها ويفجروها هكذا دون مقابل؟
وهل يملكون دماء غيرهم ليفجروها بكل بساطة وما أدراك ما المتفجرات فهى عمياء شريرة؟
إن هؤلاء وأمثالهم تربوا على خطباء يدعون على نصف الكرة الأرضية «اللهم عليك بـ وبـ.. اللهم أهلكهم كما أهلكت عاداً وثموداً.. و..».
إنهم لم يفهموا أن الإسلام لم يأت ليهلك الحرث والنسل والحياة.. ولم يعيشوا معنى «فى كل كبد رطبة صدقة»، وأن الإسلام العظيم أدخل امرأة النار فى هرة أهملتها.. وأدخل بغياً الجنة فى كلب سقته.. ولم يفهموا معنى «أفشوا السلام بينكم» وكأنهم قرأوه «أفشوا الموت بينكم».