صدرت منذ نحو عشرين عاما رواية «إله الأشياء الصغيرة» للكاتبة الهندية أرونداتى روى، وحصلت الرواية على جائزة بوكر للأدب وقتها كما حظيت باهتمام كبير فى الأوساط الثقافية والأدبية فى العالم، بسبب القصة المركبة وأسلوب الكاتبة المدهش فى تركيزه على تفاصيل حياتية قد يتجاهلها الكثيرون إنما برعت روى فى إظهار أهميتها وأثرها على حياة أبطال الرواية.
***
تذكرت الكتاب والضجة الإعلامية التى أثارها قبل أن يترجم إلى لغات كثيرة فى السنوات التى تبعت حصوله على الجائزة، تذكرته وأنا أحاول التركيز على تفاصيل صغيرة تحيط بى وتؤثر على جوانب مهمة فى حياتى وحياة من حولى حتى على صغرها. توقفت كثيرا عند منغصات تهيأ لى أن حياتى قد تصبح أكثر انسيابية لو اختفت. هى منغصات صغيرة ربما ليست بأهمية أن أمضى وقتا فى محاولة حلها، وها هى تزعجنى، أم ترانى ازددت حساسية فى مرحلة بت أشعر فيها أننى أصلا، كفرد، مجرد تفصيل صغير فى مشهد كبير؟
***
يجب علىّ أولا أن أعترف بعدم قدرتى، كفرد، على التأثير على الأمور الكبيرة. أنا لست سوى ذرة غبار قد لا ترى أصلا بالعين المجردة، رسيت على سطح صورة كبيرة لم أعد أحب معظمها. أنا ذرة تراب انتقلت مع رياح الخماسين القاسية فالتصقت على حائط بيت متواضع فى حارة شعبية، أشم رائحة الخبز الطازج فى الصباح، أسمع أصوات طرطقة الأوانى وحنفية ماء. ربما نحن فعلا فى مرحلة انتقالية فى العالم، تعاد فيها خلط الأوراق. تعبير خلط الأوراق يضحكنى أصلا، أتخيل ماردا جالسا فوق سحابة بنفسجية يحمل فى يده الضخمة أوراق لعب بحجم الجريدة اليومية، هو يتكئ على كوعه المغروس فى السحابة ويخلط الأوراق قبل أن يسحب منها ورقة ويضحك.
***
فى الورقة التى سحبها حياة لا يعلم صاحبها بتفاصيلها بعد إنما يراها المارد بأكملها. يدقق المارد فى الصورة فتظهر تجعيدة بين عينيه: هناك فى البيت الصغير تستيقظ طفلة على رائحة الخبز الطازج. تتقلب فى سريرها قبل أن تقفز منه وتتفقد أفراد عائلتها النائمين. تسحب من خلف الخزانة علبة تضع فيها كل يوم فكرة تكتبها على ورقة وتطويها. علبة الأسرار تلك فيها من القصص ما سوف يذكر الطفلة بأنف خالتها البارز وسلاطة لسان عمها، سوف تتذكر يوم فاجأها والدها بمجموعة روايات ساهمت فى نقلها من قراءات الطفولة إلى ما هو أكثر جدية وتأسيسا لشخصيتها. فى الأوراق كلمات الحب الأولى وأول دموع على الفراق.
***
يخلط المارد الأوراق من جديد ويسحب ورقة يظهر فيها مقصا يسرح فى مساحات من الكلمات. من صاحب المقص وماذا يفعل؟ يعيد تشكيل الجمل عله يصلح من أثر سوء التفاهم. هنا يلصق كلمة مودة بين اسمين، هناك يضع حروفا فتظهر كلمة تسامح بدل كلمة تصارع. من هذا الطفل الذى يسحب الصحف القديمة ويلعب بالكلمات؟ يركز المارد فيرى وجها يغطيه الشحم الأسود. هذا طفل يعيش فى الشارع، يبيع الورد فى النهار ويتدفأ بالصحف فى الليل. تعلم فك الحروف خلال سنتين قضاهما فى المدرسة قبل أن تغدر به الحياة وترميه فى الشارع، سنتين تعلم فيهما قراءة كلمات صار يبحث عنها فى المساء.
***
إله التفاصيل الصغيرة يمسك بأوراق للعب، هل من طريقة للتسلل إليها ومحو بعض التفاصيل المزعجة وربما إضافة غيرها؟ سوف أزرع زهر الليمون فى كل ورقة، وأخفى منها رياح الخماسين بحرارتها وترابها. سوف أبقى نظرة تلك السيدة العجوز الحالمة وأمحو نظرة زوجها اللئيمة. لا أعرف قصتهما إنما نظرة منها تخبرنى عن بحر من القصص. سوف أسرق ورقة ملك الموت وأمزقها قطعا صغيرة لا يمكن إعادة لصقها. ملك الموت أقسى شخص فى الوجود. سوف أتعلم أن أخلط الورق فأضع الحظ أولا، ربما أكرر ورقة الحظ مرات كثيرة فيسحبها الجميع. هكذا لن يلوم أحدنا قلة حظه بعد اليوم... ونصبح مسئولين عن باقى جوانب حياتنا.
أكتب لائحة التفاصيل التى سوف آخذها معى فى اليوم التالى إلى العالم الآخر: كالعادة يتصدر صوت لعب أطفالى اللائحة مهما كبروا. تحوم حولهم رائحة المناقيش بالزعتر، لا تفسير لدى لمرتبة الزعتر فى حياتى، فكل قضمة تدخلنى إلى حارة أشترى من فرنها المنقوشة. الشرفة فى ليلة دافئة وكرسيان بينهما طاولة صغيرة وحديث عابر لسنوات أعيشها معه. فنجان قهوة فى صباح شتوى وثرثرة فى مدينة مزدحمة. اللون الأزرق على مد البصر ووردة بلدية تقول للمستوردة ابعدى لا مكان لك هنا. كنبة طويلة عليها بقايا اليوم السابق: كتب ولحاف صغير، نظارة تركها هو قبل أن ينام، قطعة حلوى فى طبق من الخزف وصحيفة مطوية فوق لعبة على شكل دبدوب.
***
إله التفاصيل الصغيرة يفرك يديه بعد أن خلط الأوراق لتظهر حياة بأكملها تتلخص فى أشياء مبعثرة على كنبة. إن اختفت فعلا ورقة ملك الموت، وتكررت ورقة الحظ، هل يخفف ذلك من خوف الأم وتوتر الأب وحساسية الأصدقاء وقسوة الشارع؟ يكمن الشيطان فى التفاصيل، كما يقال فى اللغة الإنجليزية، لذا ها أنا أتضرع إلى إله التفاصيل الصغيرة أن يخلط الأوراق برفق، قد يضطر أن يغش قليلا فيضع جانبا أوراق الموت والمرض والظلم. لما لا؟ أليست فى يده كل الأوراق؟