من يذكر مظاريف البريد البيضاء ذات الورق الشفاف نوعا ما والتى تغطى أطرافها أضلاع زرقاء وحمراء متتابعة، تلك التى كنا نقربها أحيانا من مصدر النور لنستشف ما بداخلها حين نكون بانتظار جواب، لكن الرسالة تكون موجهة إلى غيرنا فى البيت؟ لم نعد نتلقى رسائل كهذه منذ استعضنا عن القلم بلوحة المفاتيح وفقدنا القدرة على خط أخبارنا باليد، لاسيما أنه أصبح بإمكاننا إرسال تغطية حية لكل حركة نقوم بها إلى من نريد عبر الهواتف الخلوية والهواتف الذكية.
***
من يذكر العبارة اللطيفة التى كان يكتبها أبناء أجيال سابقة على زاوية الظرف يشكرون فيها ساعى البريد على عمله فى مد خط التواصل، بل وأحيانا خط الحياة، بينهم وبين من يحبون؟ «مع الشكر لساعى البريد». أثناء طفولتى كنا ما زلنا نتلقى رسائل خطية فى مظروف عليه طوابع ملونة، بل كان الكثير من أبناء جيلى يجمعون الطوابع. كنت أتخيل ساعى البريد رجلا أربعينيا نحيل البنية بلباس أزرق أقرب إلى اللون الرمادى، على رأسه قبعة زرقاء أيضا وعلى كتفه شنطة بنية، اهترأ فيها الجزء الذى يفتحه ويغلقه أمام كل بيت وهو يدقق نظره بالرقم الموسوم على باب الدخول، قبل أن يضع الرسائل فى الصندوق. قد أكون لم أرَ ساعى البريد هذا فى حياتى، أى أننى لا أعرف إن كان الرجل ذو البدلة الزرقاء من نتاج مخيلتى فقط أم أننى رأيته فى الأفلام أم فى الحقيقة، إلا أننى أتذكره كثيرا اليوم، فى عصر لم نعد نعتمد فيه على الرسائل الورقية المكتوبة بقلم حبر سائل أو جاف أو حتى قلم رصاص.
***
أنا أرى ساعى البريد فى كل صديق أو صديقة مازالوا يزورن دمشق. فما أن أسمع عن نية أحدهم بالتوجه إلى دمشق للعمل أو لزيارة أفراد عائلتهم حتى أبدأ بترتيب لائحة طلباتى فى ذهنى. أريد بعضا من مربى المشمش «المعمول بالبيت»، أريد زجاجة صغيرة من ماء الزهر «المعصور بالمزرعة على الإيد»، أريد مترا واحدا لا غير من الحرير المطرز بخيط ذهبى ينقش حكايا كاملة على القماش الأبيض، أريد كرسيا قديما من بيت عائلتى أكاد أجزم أن نقله سهل رغم حجمه، أريد قصصا تراكمت على جدران غرفتى، فيها أسرار صديقاتى منذ المراهقة وحتى تزوجنا، أريد حضن جدتى الدافئ حين كنت أحتمى فيه من غضب كانت والدتى تفتعله حين آكل كل قطع الحلوى قبل الغذاء، أريد صوت نافورة الماء الصغيرة فى حديقة البيت ورائحة القهوة التى تصبها أمى كل صباح. «بلا قهوة أجنبية بلا شىء، فى متل القهوة المغلية مع الهيل؟».
فى السنوات الخمس الماضية، سافرت علب المشمش المحشو بالفستق من دمشق إلى بيروت إلى نيويورك أو القاهرة، ثم سافر فى الاتجاه المعاكس مخزون مهول من الحنين ومن الشعور بالبعد والفراق. جاءت بعض أشيائى المفضلة من بيتى فى دمشق إلى حيث كنت أعيش فى أمريكا، ثم إلى بيتى الحالى فى القاهرة. فى كل مرة أفتح فيها علبة تحتوى على شىء من بيتى هناك، تتصارع أمامى صور من حياتى فى دمشق مع صور من بعض مناطق سوريا نراها حاليا عن التهجير والدمار، ومنظر رجل عجوز على كرسى متحرك يدفعه ابنه الشاب، بينما زوجته العجوز هى الأخرى تحاول جر شنطة سفر تحتوى على ما تبقى من حياتها.
***
يساورنى كل مرة أفتح فيها شنطة وصلتنى من سوريا شعور بالخجل، أمام هول ما فقد غيرى من أرواح وأرواح أحباء وبيوت وأعمال وأموال وأحلام، بينما أجلس أنا فى بيت فى بلد آخر أتلقى علبا من الذكريات يحملها أصدقاء مخلصون محبون قادرون على تلبية رغباتى الترفة. يجتاحنى شعور بالذنب بسبب شوقى إلى أمور أقل ما يمكن وصفها بأنها تافهة، بالمقارنة مع ما قد يشتاق إليه الكثيرون، أشعر بالخجل حين يسألنى أحد الأصدقاء إن كنت أريد شيئا من هناك، أو إن كنت أريد إرسال شىء إلى أحد أقربائى. أفهم فجأة حقيقة معنى أن تكمن السعادة فى تفصيل، فى لقمة، فى هدية رمزية لا قيمة مادية لها إنما الحب كله فى معناها. أن يصلنى من دمشق مفرش دمشقى مطرز يعنى أن كل جزء من خيوط التطريز قد ثبت بعض الحب ممن أرسله إلى على القماش، فأصبح المفرش مطرزا بالحب. أن يصلنى مغلف فيه مجموعة صور وشهاداتى المدرسية كأن تصلنى عشرون سنة من حياتى فى ظرف بريدى، أفتحه فتقفز الذكريات إلى حجرى مختبئة من هول الطريق، مذعورة من رائحة الموت، مصعوقة من وحشية الأحداث. أن أفتح علبة فأجد فيها حبات من المشمش المربى يشعرنى بأن بساتين الغوطة كلها ظهرت أمامى فى زهوها، وليس فى قصص الرعب التى أسمع عنها منذ خمس سنوات. أن أفتح كيسا صغيرا بداخله بعض حبات الفستق الحلبى «من حلب دغرى» كما تقول صديقتى كأن يظهر أمامى بائع الفستق يجر العربة فى ليلة صيف أضاءها البدر. أطبطب على الصور والقماش والمشمش، أتقشف فى استخدامى لها علها تدوم مدة أطول حتى يسألنى صديق آخر عما أريده من سوريا. وأعد لائحة جديدة أعطيها للصديق، مع الشكر لساعى البريد.