تعد فترة حكم السلطان سليمان القانونى (١٥٢٠/١٥٦٦) هى الفترة الذهبية للخلافة العثمانية، ويمكن مقارنتها بالفترة الذهبية للخلافة العباسية فى عهدها الأول من حيث ازدهار المعمار والفنون والعلوم وتطور السلاح وتوسيع رقعة الخلافة.
يعد القانونى واحدا من أطول من حكموا الإمبراطورية العثمانية، وفى حياته قامت الإمبراطورية العثمانية بأكثر من ١٥ حملة عسكرية كانت فى معظمها ناجحة، فقد شن حملات عسكرية على الدولة الصفوية وعلى الأسطول البرتغالى فى المحيط الهندى وعلى السودان والحبشة واليمن وفرنسا وإيطاليا والنمسا والمجر وإسبانيا، كما أنه قام بحملات مماثلة لفتح ليبيا وتونس والجزائر!
كذلك ففى عهد القانونى، فقد وقع معاهدات مهمة تعكس التفوق الكاسح للخلافة العثمانية فى ذلك الوقت. وأهم هذه المعاهدات هى معاهدة إسطنبول (١٥٤٧)، ومعاهدة أماسيا (١٥٥٥).
فى المعاهدة الأولى فرض القانونى شروطه على النمسا وأرغمها على دفع ٣٥ ألف ليرة سنويا مقابل الحماية، كما أن المعاهدة نصت على استحواذ القانونى دون غيره على لقب «إمبراطور»! نصت الاتفاقية أيضا أنه فى حال طلب القانونى إعادة الهاربين من الإمبراطورية العثمانية سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين يتم إعادتهم فورا، بينما سيعيد العثمانيون الهاربين من ألمانيا والنمسا حال كونهم مسيحيين فقط، وذلك بعد تحقيق تجريه السلطات العثمانية للتأكد من أن المطلوبين مجرمون بالفعل.
أما فى معاهدة أماسيا فقد أجبر القانونى الصفويين على الاعتراف بالحدود الإيرانية التركية التى حددها العثمانيون بأنفسهم وذلك على إثر هزيمتهم للدولة الصفوية.
نتيجة هذه المعاهدات كانت واضحة، الإمبراطورية العثمانية أضحت هى القطب الأوحد ويدين لها الجميع بالطاعة، وحتى كارلوس الخامس فقد حاول تخفيف الضغوط على نفسه بإرسال جيوشه إلى قارة أمريكا حيث قام باستعباد وإبادة أهلها وجلب العبيد من إفريقيا لبناء القارة الجديدة، وحاول أن يبتعد عن صراعات البحر المتوسط، حيث لم تعد الكفة فى صفه عند أى نزال مع العثمانيين.
***
رغم محاولات كارلوس المستمرة منع انتشار المذهب البروتستانتى بمساعدة البابا لكن كل المحاولات قد باءت بالفشل، فمن ناحية فقد ضاق الأوروبيون بممارسات الكنيسة الكاثوليكية المتسلطة والتى وصلت إلى حد بيع صكوك الغفران لدخول الجنة! ومن ناحية أخرى فقد دعم سليمان القانونى البروتستانت الذين استعانوا به لمواجهة كارلوس الخامس والبابا، انتشرت البروتستانتية فى ألمانيا بشكل كبير ولم يجد كارلوس مفرا من الاعتراف بها كمذهب رسمى وفى النهاية اضطر للتنازل عن العرش فى عام ١٥٥٦.
وصلت قوة الخلافة العثمانية فى عهد القانونى إلى أن الخليفة فكر جديا فى غزو أمريكا ومزاحمة الإسبان، إلا أن القانونى استقر فى النهاية أن الأولوية هى فى تعضيد التواجد فى المتوسط ومواصلة الضغوط على البرتغاليين فى المحيط الهندى وخاصة بعد تضرر التجارة فى الرقعة العثمانية على إثر التوغل البرتغالى فى المحيط، ووصل عدد الأسرى البرتغاليين وفقا لبعض التقديرات إلى أكثر من ٧٠٠٠ أسير وقعوا فى يد العثمانيين.
فعل القانونى بالضبط ما كان يفعله الإسبان بعد سقوط الأندلس، فقد كانت سياسته هى هدم الكنائس الكبيرة فى الدول التى يفتحها واستبدالها بجوامع ولم يستثن من ذلك سوى كنائس المجر تقديرا من السلطان لأساقفتها الذين بادلوه الاحترام.
كذلك فقد كان لهزيمة الدولة الصفوية وفتح عاصمتها «تبريز» تأكيد آخر لتفوق الإمبراطورية العثمانية فى شرق ووسط آسيا وكان ذلك مؤديا إلى المزيد من الانقسامات بين الشيعة والسنة وانعزال الشيعة فى الدولة الصفوية بعد ترسيم حدودها لقرون لاحقة.
كانت الحملة على الدولة الصفوية تاريخية لسبب آخر، فقد بدأ صراعا تدريجيا على العرش بين أبناء سليمان القانونى، وشعر ولى عهده «مصطفى» أن إخوته من زوجة أبيه وبمساعدة أحد كبار قادة الجيش «رستم باشا» والذى هو فى الوقت ذاته صهر القانونى، يسعون إلى إبعاده من خلافة عرش أبيه، فأخذ يتقرب من الجيش ومن الشعب ومن العلماء لتوطيد مكانته حتى إن العديد من المصادر أكدت أنه بالفعل أصبح محبوبا فى جميع أرجاء الإمبراطورية! أثناء الحملة على الصفويين أوعز رستم باشا إلى القانونى بأن ابنه مصطفى يراسل ولاة المسلمين من خلف ظهره بل وأوعز إليه أيضا أن مصطفى يتآمر ضد أبيه مع الصفويين وأنه يخطط فى النهاية للانقلاب على العرش، فما كان من القانونى إلا واستدعى ابنه إلى «قونيا» ولم يمهله حتى التحقيق أو المحاكمة، بل أمر فورا بشنقه حتى الموت وقد كان!
يذكر العديد من المؤرخين أن عملية القتل البشعة هذه أحدثت توترا كبيرا فى صفوف الجيش الذى كان محبا لمصطفى ولم يجد القانونى مفرا من عزل رستم باشا لتخفيف هذه الضغوط، لكن عل أية حال تعد هذه واحدة من أكبر سقطات سليمان القانونى وأبشعها ولكنها تضاف إلى تاريخ طويل من الصراع على السلطة فى تاريخ الخلافة الإسلامية أريقت على إثره الدماء حتى بين أبناء الأسرة الواحدة، فهذا حبس الماء عن أخيه حتى مات عطشا، وذاك أمر بإعدام كل أعمامه، وآخر شنق ابنه لمجرد وشاية لم يتم التأكد من صحتها وهكذا!
***
تمكنت الشيخوخة تدريجيا من سليمان القانونى وخصوصا بعد أن فقد زوجته وثلاثة من أبنائه (بالإضافة إلى أنه قتل ولى عهده بنفسه)، منهم من مات كمدا على أخيه ومنهم من مات مرضا.. وانتهى الأمر بالقانونى فى نهاية أيامه وحيدا وحزينا، لكنه لم يترك أبدا ميادين الحرب ولا تطوير الإمبراطورية علما وحضارة وفنا، ومات أثناء حصار مدينة سيكتوار (جنوب المجر)، ودفنت أحشاؤه فيها بينما نقل جسمانه إلى حيث يرقد الآن فى إسطنبول بعد جنازة مهيبة.
خوفا من القلاقل فقد أسرع الجيش بتنصيب ولى العهد سليم الثانى العرش بعد أن كان قد خلف أخاه المقتول على يد أبيه، وسرعان ما أكد سليم الثانى على الاعتراف الدولى به حينما اجتمع مع سفراء إيران وألمانيا لتجديد معاهدتى إسطنبول وأماسيا لتبدأ فترة جديدة عثمانية أتناولها لاحقا.
توضيح واستدراك
ذكر لى بعض الأصدقاء بأن سلاطين الخلافة العثمانية لم يحملوا لقب «خليفة» وأن أول من فعل ذلك هو عبدالحميد الثانى، ووجدت بالفعل اعتقادا شائعا بهذا الأمر، والحقيقة أن عبدالحميد استعاد لقب الخليفة بعد فترة من الانقطاع، لكنه لم يكن الأول الذى يحمل اللقب، صحيح أن لقب «سلطان» كان غالبا، لكن محادثات السلطان مع أمراء المناطق الإسلامية المختلفة كانت تحمل لقب «خليفة» فى الإشارة إلى السلطان العثمانى، كما أن المحادثات المنقولة عن هؤلاء السلاطين كان السلطان يشير إلى نفسه بالخليفة وإلى «الرقعة الإسلامية» بالخلافة وسأتناول هذا الأمر فى حينه.
أما عن التصحيح فقد ذكرت فى مقال الأسبوع الماضى سهوا أن الخلافة الإسلامية قد انتهت بعد الحرب العالمية الثانية، والصحيح أنها انتهت بعد الحرب العالمية الأولى، فعذرا على السهو.
أستاذ مساعد العلاقات الدولية بجامعة دنفر