العجوز والتشيللو والكلاب! - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الإثنين 16 سبتمبر 2024 10:25 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

العجوز والتشيللو والكلاب!

نشر فى : السبت 31 أغسطس 2024 - 8:20 م | آخر تحديث : السبت 31 أغسطس 2024 - 8:20 م

بديعة حقًّا هذه النوفيلا الصغيرة، التى تصنع نماذجها الإنسانية بمزيجٍ من الفكاهة والشجن، والتى تتقاسم بطولتها سيدة عجوز مع قريتها، نرى السيدة بكل تفاصيلها، ونعاين القرية بكل شخصياتها، وتختبر الحكاية مواجهة القرية والسيدة معا للوحدة والتهميش، ومحاولتهما خلق معنى للحياة الفقيرة. «فيرونا تهبط من التل» للروائى البلجيكى ديمترى فيرهولست، والتى ترجمها محمد عثمان خليفة، وصدرت عن دار العربى، تتأمل أيضًا علاقة حب نادرة بين امرأة وزوجها، ومحاولات ترويض الحياة بعد الفراق. فيرهولست، الذى قرأت له من قبل ترجمة رواية «التعساء» عن دار العربى، يمتاز بهذه القدرة على تقديم رؤية ساخرة لموضوعاتٍ تبدو تراجيدية فى جوهرها، «التعساء» مثلا بترجمة ريم داود، تبدو كما لو كانت رواية سيرة لعائلة الكاتب، ويقدم فيها نماذج فاشلة وبائسة، ولكنها لا تتوقف عن المرح والشراب، ولا تعبأ بالمرض، أما الموت فى حياتها فهو حدث عابر، والشخصيات مهمشة وفقيرة، فى مجتمع غنى وناجح، ومع ذلك فهى متصالحة مع نفسها، وسقف أحلامها متواضع، وتعيش حياتها يوما بيوم، دون شكوى أو يأس. فى «فيرونا تهبط من التل» نفس طريقة المعالجة الساخرة، ونفس طريقة تعليقات فيرهولست فى الدعابة والوصف، وفى بناء مشاهد كاملة ساخرة، مثل حكاية الطبيبة البيطرية الوحيدة فى القرية، والتى يلجأ إليها البشر لعلاجهم، وتحقق نجاحًا كبيرًا فى هذا العلاج، ومثل انتخابات القرية لاختيار عمدة جديد، بطريقةٍ غريبة للغاية، بأن يتم إخفاء ثمرة لفت فى حقل من الحقول، وأول مرشح يجد هذه الثمرة المدفونة فى الأرض، سيصبح العمدة، ولكن أيّا من المرشحين لن يعثر على الثمرة، وستجدها بالصدفة بقرة شقراء، فيختارونها عمدة للمدينة، ويضعون الوشاح حول رقبتها، ويعلنون أن تلك البقرة/ العمدة لن يتم ذبحها أبدًا، وهكذا تسير البقرة بكل كبرياء، وسط ترحيب الجميع، وتحيتهم اليومية المتكررة: «صباح الخير أيها العمدة!». لكن تكنيك فيرهولست الذى يبدو شديد البساطة والخفة، هو فى الواقع شديد العمق والتعقيد، ذلك أن السرد يسير فى خطين متداخلين: حكاية العجوز فيرونا، مدرّسة الموسيقى التى فقدت زوجها الحبيب بوتر، المؤلف الموسيقى، منذ عشرين عامًا، فلم تتزوج، وعاشت وحيدة فى بيتهما أعلى التل، والآن، وهى فى الثانية والثمانين من عمرها، قررت فى أحد أيام شهر فبراير الثلجية، أن تهبط من منزلها إلى القرية، ومعها كلبها، وكانت قد اشتهرت بمحبتها للكلاب، وبمحبة الكلاب لها. والخط الثانى؛ هو حكاية سكان قرية «آوسفينى» الفقيرة المهمشة، والمغلقة على سكانها، والفقيرة والوحيدة أيضًا، وكأن العجوز والقرية وجهان لعملة واحدة، وكأننا أمام لحن وتنويعات على نفس اللحن، وكل النماذج الإنسانية فى القرية رسمت بمحبة وتعاطف، تمامًا مثل فيرونا. هذه القرية التى لم تعد تنجب إناثًا، والتى تحولت دار السينما فيها إلى بار ومطعم، والتى لا تزيد فيها وسائل التسلية عن شرب الخمور، ولعب مباريات كرة قدم عبر الدمى الخشبية، تمثِّل أيضًا نفس الفكرة، فتضع بشرًا فى مواجهة العادى والمألوف، وأناسًا يعيشون الحياة يومًا بيوم، ولا يوجد أى تغيير حقيقى فى حياتهم. تختار فيرونا الوحدة، ورغم أحلام شباب القرية بأن تكون فيرونا الأرملة عشيقتهم، فإنها تختار صحبة الكلاب، زوجها أصيب بالسرطان فشنق نفسه على شجرة، رفض انتظار الموت، فذهب هو إليه، وكرَّر ما فعله والده، ولكن فيرونا اختارت أن تفعل شيئًا غريبًا، بأن تقطع الشجرة التى شنق زوجها نفسه عليها، وأن تطلب من صانع آلات موسيقية، أن يحوّل أخشاب الشجرة إلى «تشيللو» تعزف عليه. صانع الآلات حذّر فيرونا من أن أخشاب هذه الشجرة لا تناسب هذه الآلة، وأن عليها أن تنتظر 20 عامًا حتى تتماسك أخشاب الشجرة، فوافقت فيرونا، وبعد 20 عامًا، أمسكت بالآلة، وبدأت فى العزف، واختارت نفس المقطوعة التى قام زوجها بتأليفها، والتى كانت تعزفها لتلاميذ المدرسة فى حياته. بوتر زوج العمر وحبيبها أمضى وقتًا طويلًا من ناحيته فى قطع أشجار غابة محيطة ببيتهما، لكى يوفر لزوجته كميات هائلة من خشب التدفئة، حتى تستفيد بها فى فصول الشتاء، وعاشت فيرونا بالفعل على هذه الأخشاب التى كانت بدورها عنوان محبة بوتر لزوجته، وهديته الأخيرة لها قبل انتحاره. مع آخر قطعة من الأخشاب التى تركها بوتر، قررت فيرونا أن تهبط من التل مع كلبها، وعلى مقعد خشبى فى ساحة القرية العادية، ووسط الجليد، بدأت فى الترنم بموسيقى كتبها بوتر، وجلست فى انتظار محطة النهاية. من هذه اللحظة الخاصة للعجوز، وبالتوازى مع ذكرياتها القديمة، وحضور شخصيات القرية العجيبة، ينهض بناء «النوفيلا» الصغيرة على أعمدة راسخة، تشهد لمؤلفها بالحرفة والمهارة، وتشهد أيضًا على معرفته لشخصياته، وروحه الإنسانية التى تعرف كيف ترى جوهر البشر، والتى تقدم مزيجًا مدهشًا بين السخرية والتعاطف. تحضر فى الرواية أيضًا الطبيعة بكل مكوناتها من الأشجار والحيوانات إلى الغابات والتلال، نشعر حقًّا بمدى بساطة حياة هؤلاء القرويين، وبمحدودية عالمهم، وبأحلامهم الصغيرة، صاحبة المتجر مثلًا تتسامح مع أحد الزبائن، وتغض الطرف عن ديونها تجاه رجل يبدو فقيرًا، ولكنه يفاجئها ذات يوم بتسديد كل ديونه مرة واحدة، هذه السيدة التى بارت تجارتها من حفاضات الأطفال لقريةٍ لا يوجد بها أطفال، احتفظت بالحفاضات فيما بعد، حتى يستخدمها كبار السن. تفاصيل كثيرة نُسجت بمهارة، نترك فيرونا فى رحلتها من التل إلى القرية، ثم نعود إليها، نرى الغابة فى عنفوانها، ثم نتأمل بوار تجارة الأخشاب، باستثناء جمع الحطب للتدفئة فى فصل الشتاء، ونصبح فى النهاية أمام وحدة سيدة، ووحدة قرية، وأمام وفاء امرأة، وطيبة بشر عاديين لم يسمع بهم أحد. لم يتحمل بوتر فكرة انتظار الموت، ولكن فيرونا صبرت وانتظرت، وفى الآخرة، ستقول لله: «إننى فقط مجرد امرأة عشقتْ زوجها، وعلّمتْ الموسيقى، وأحبّتْ الكلاب».

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات