الأسطورة التى هزمها الواقع! - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الخميس 12 سبتمبر 2024 1:44 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الأسطورة التى هزمها الواقع!

نشر فى : السبت 17 أغسطس 2024 - 7:20 م | آخر تحديث : السبت 17 أغسطس 2024 - 7:20 م

فكرّتُ كثيرًا وأنا أقرأ هذه الرواية الجديدة للروائى محمد عبد الجواد فى مدى ثراء موهبته السردية، مادة وتعبيرًا، ومدى طموحه الفنى، مما جعل روايته «أميرة البحار السبعة» الصادرة عن دار المرايا، تتقاطع مع مستوياتٍ كثيرة للقراءة، وجعلها أيضًا مفارقة لعالمه الذى أدهشنا به فى نوفيلاته الثلاث السابقة: «الصداقة كما رواها على على»، و«عودة ثانية للابن الضال»، و«جنازة البيض الحارة»، مثلما هى امتدادٌ لهذا العالم فى نفس الوقت.

بدا لى أن بذور الغرائبية، والأبطال غير العاديين، وهذا المزيج بين المأساة والمسخرة، وحضور فوضى الهامش، كجزء من مأزق وجودى شامل، كل هذه السمات موجودة أصلًا فى النوفيلات الثلاث، ولكن عبد الجواد اختار فى حكاية «أميرة البحار السبعة»، أن يلجأ صراحة إلى واقعيةٍ سحرية تقدم التحية تحديدًا إلى عالم ماركيز، وتصنع تقاطعاتٍ متعددة مقصودة بين «ماكوندو» وقرية سيدى العوام. لعل هذا الاختيار الفنى يذكرنا بأن النوفيلات السابقة كانت تحتمل أيضًا هذا المزيج بين الواقعى والأسطورى، مما يجعلنا نعيد النظر إلى أبطال سابقين مثل على على، وحمادة أوريو، وشريف البندارى، كشخصياتٍ على تخوم الأسطورة، بينما تبدو أميرة بنت أسماء، بطلة الرواية الجديدة، كشخصية أسطورة صريحة. الواقعية السحرية كما أفهمها ليست هروبًا من الواقع، ولكنها محاولة للعودة إليه بشكل أكثر عمقا واتساعا، وتجاور المعقول واللا معقول، وسردهما بنفس الدرجة من الحياد الخالى من الدهشة، يجعل الحياة أكبر بكثير مما نظن، وبينما يأسرنا الخيال، وتدهشنا الغرائب، فإننا نكتشف فى النهاية أن الطبيعة البشرية وتحولاتها أكثر غرابة من الأشباح والكائنات العجيبة، وبينما تبدو الأسطورة مفارقة للمنطق الواقعى، أو نقيضا له، فإن تفسيرها يعود من جديد، ليكشف عن رغبات واقعية مجهضة، فكأن الأسطورة هى الواقع وقد نبت له جناحان. مثل ماكوندو ماركيز، يتم تأسيس قرية سيدى العوام، وتتغير حياتها، بأحداث غريبة، ومثل ماكوندو فإن قريتنا مهمشة ومغلقة، ويلعب الغجر دورًا محوريّا فى تغييرها، كما أن تقاطع عالم الحداثة والأسطورة حاضر فى التجربتين، ومثل هاجس المواليد أصحاب الذيول، فإن مولد أميرة، ابنة أسماء الغجرية، برائحة زفارة لا تفارقها، رغم جمالها الساطع، وارتباط مولدها بحديث أسطورى عن مضاجعة أمها للبحر، ثم عودة تدفق الأسماك بهذا الميلاد، كل ذلك يجعل الغرائبية مفتاح قراءة الواقع، كما فعل ماركيز، ولكن على فترة زمنية أقل، وإن انتهت الحكاية فى التجربتين بتفكك وانتهاء عالمى ماكوندو وسيدى العوّام. لكن تجربة عبد الجواد تنتمى بنفس القدر إلى عالمه السابق، لأن ثنائية الهامش والمتن، والحلال والحرام، والامتثال والتمرد، والغياب والحضور، والثراء والفقر، كلها تعمل هنا، مثلما عملت من قبل فى النوفيلات الثلاث، ولكن عبر آلياتٍ مختلفة وبآفاق بالغة الاتساع. اللعبة هنا هى اختبار دخول أسطورة أسماء وابنتها أميرة، على عالم مفرط فى الواقعية، يعاين معجزة موت البحر، وامتناعه عن إرسال الأسماك، ثم يعاين عودة تدفق السمك، ومرة ثالثة يغيب السمك، ويرتبط كل ذلك بمفهوم ارتكاب مضاجعة محرمة، بينما يتم على مستوى آخر، ارتكاب حرام علنى باحتكار رشدان اللول وجابر الحرارة، والأخير يبدو كما لو كان نظير شريف البندارى بطل «جنازة البيض الحارة»، لفيض البحر من الأسماك، وإنشاء سفينة نوح معاصرة، كمطعم ضخم، وضع سيدى العوام، لأول مرة على الخريطة. يمكن أن تقرأ ما جرى لأميرة وأمها، وهما تحضران وتختفيان فتصنعان الحياة والموت، باعتباره فشل الأسطورة حتى فى معالجة الواقع، وإن اكتفت فقط بكشف كل تناقضاته، وبينما تبدو المرأة ممثلة فى أسماء وأميرة هى عنوان الحياة، فإن رجال الرواية، سواء رشدان أو جابر أو دوبارة أو مصطفى أو يحيى العازف أو إمام المسجد، ليست إلا نماذج مغلقة على حياتها الضيقة، أما أسماء فقد جاءت من الشام، وعادت إلى مملكة زنوبيا، وأميرة ابنة البحر، وتعود إليه. يفشل جابر فى ترويض أسماء أو أميرة، ولكنه ينجح مع يحيى العازف، الذى يفهم فى الموسيقى، ويعرف الحب، ولكنه لا يفهم الحياة، ولا يفطن إلى ضرورة تزاوج الروح والجسد، ورغم أن قرية سيدى العوام تعرف الدين، وفيها جامع وشيخ، وتتحدث عن الحلال والحرام، إلا أن اختبار موت البحر، يكشف تهافت قشرة الدين، فيتم التلاعب بالحلال والحرام بطريقة عملية بحتة، ويبدو استرضاء البحر أهم من استرضاء خالق البحر. تتعامل أسماء وأميرة بفطرة غريزية، وبحريّة تليق بالغجر، ولكنهما أكثر صدقًا ونقاء من الجميع، أسطورتهما جعلت البحر يفيض بالأسماك، ولكن الحيتان استأثرت بالمحصول، فزاد الفقراء فقرًا، وتضخمت ثروات الأغنياء، المشكلة إذن لم تكن فى البحر، ولكن فى هذه الطبائع البشرية المتقلبة والمتناقضة، والتى لا مهرب منها، وهى التى تدير عالم سيدى العوام، والعالم كله. تعيدنا إشارات وأغنيات كثيرة معاصرة إلى سنوات التسعينيات، والألفينيات، وتذكرنا مدن كالقاهرة والمحلة وبورسعيد بأن الحكاية لم تفقد واقعية مكانها وزمانها، ولكن البناء بأكمله تعيد تشكيله أسطورة التأسيس، وأسطورة الغجرية وابنتها أميرة، مع محاولة تفكيك أوراق غامضة تنبؤية، بالضبط كما حدث فى «ماكوندو»، واللجوء إلى التفسير الغيبى الوثنى، والذى يبعث البحر إلها معاصرًا مثل «بوسايدون». هذه الصياغة الجديدة للواقع، جعلت التجربة أكثر اتساعًا، ليس هروبًا من الواقع، ولكن لإعادة تأمله من جديد: فيضان البحر بالخير لم يجعل الإنسان أفضل، ولم يجعله يتخلص من نزقه وجهله وأنانيته، حتى الدمية ليبينو أكثر حياة من نفوس ميتة، ومن أجساد معطّلة. لا تستحق قرية سيدى العوام إذن «أسماء» ولا «أميرة»، أما الضحكات والتعليقات الساخرة فليست سوى الشكل الملائم لوصف أوضاع مقلوبة، وهى تترجم فى الواقع مأزقًا تراجيديّا مروعًا، ذلك أن قرية فشلت المعجزات فى إحيائها ومنحها البحر كنوزه، فلم تتحسن أوضاع كل سكانها، لهى قرية تستحق الفناء، ولا أمل فيها أبدًا، ولا رجاء.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات