كما كل عام، أراجع تفاصيل حدثت فى مثل هذا اليوم من حياتى، وألعب لعبة الاحتمالات. ماذا لو لم ألتق به ذات مساء كان مكتظا بالأصدقاء والقصص عقب انفجار كبير هز البلد وهز كثيرا من أصدقائى ممن كانوا يعملون فى بغداد؟ ماذا لو لم يتوقف فى القاهرة، حيث أعمل، فى طريق عودته إلى نيويورك، حيث يعمل؟ ماذا لو لم يتصل بى لاحقا ليقول إنه انتقل بحكم عمله إلى القاهرة؟
***
ماذا لو قبلت بتلك الوظيفة التى كان من شأنها أن تأخذنى إلى بلد بعيد لطالما حلمت بلغته وأدبه وموسيقاه وبلقاء سوريين هاجروا إليه منذ قرنين؟ ماذا لو لم يزرنى فى دمشق ولو لم يحبها ويتوه فى حاراتها المنمنمة بنهم من يبحث عن محبوبته؟ ماذا لو لم ينجذب إلى حديث فى السياسة نتمتم به فى بيوت الأصدقاء ونحن نتساءل عن قابلية أن يتغير أى شيء؟
بعد ذلك، ماذا لو لم نتزوج، ربما قرر أحدنا لحظتها عدم جاهزيته للارتباط. ماذا لو لم يأت طفلان ثم الثالثة ليشعرونا وكأن المعادلة قد حسمت لصالح الأكثرية، أى الأطفال، فى أى نقاش؟ أليسوا أكثر منا عددا؟
***
ماذا لو لم نخلط كتبنا معا فى مكتبة كبيرة على حائطين امتدا فى كل بيت عشنا فيه منذ تزوجنا؟ مسألة مزج كتبنا، وهى من أغلى ما نملك، مثلت نقلة كبيرة فى تصور كلينا لحياته ولمفهوم المشاركة. الكتب شديدة الخصوصية إذ إنها تشى بكل محطات حياتنا، من الأدب إلى السياسية التى من شأنها أن تكشف لمن ينظر إلى الأرفف عن تطور تفكيرنا ومواقفنا.
***
ماذا لو لم تتحول تطلعاتنا إلى بحث عن مساحة مشتركة نجلس فيها ويأتينا من غرفة أخرى صوت شجار الولدين فنضحك قبل أن يأخذ أحدنا هيئة الجد ليطلب منهم أن يكفوا عن ذلك؟ ها نحن نجلس فى آخر يوم قضيناه فى العمل وقضاه أولادنا فى المدرسة، ونكرر ما يفعله ملايين الناس فى اللحظة ذاتها، محاولة لملمة يوم والاستعداد لغيره، هو مساء كمساءات كثيرة سبقته لكنه استثنائى لأنه لن يتكرر، تماما كما لن تتكرر كل لحظة تعصف بى حتى لو كانت رتيبة فهى تحفر فى نفسى مقدار نقرة لن تتلاشى.
***
ماذا لو لم نعش معا أحداث الربيع العربى ونحن نتشارك الموقف من ضرورة أن نعيش مع من حولنا علاقة أفضل ببلادنا التى تبدو أنها فى محاولة مستمرة للفظنا؟ ماذا لو اختلفنا فى مواقفنا مم يحدث، كان سيؤثر ذلك قطعا على أى حديث سوف نخوض فيه على مدى سبع سنوات هى أطول من نصف مدة حياتنا معا.
ماذا لو لم نتساءل، خلال أسابيع تكاد تنفجر من كثرة الأحداث، إن كان بيتنا على ما يرام، على حجمه وعدم إمكانية تأثيره على المشهد الكبير. هل نحن على ما يرام؟ هل من شيء يمكننا أن نقوم به من أجل أن نحمى أنفسنا من العاصفة؟ هل ما زلنا سعيدين بحياتنا معا؟ أهذا وقت مناسب لمراجعة أحلامنا علها تكون قد تغيرت؟ هو سؤال صعب لأن جوابه، إن كان نفيا، فهو قد ينسف مسلّمات قلما يشكك فيها أحد.
***
ها نحن إذا، فى مساء ينتهى معه يوم عادى فى فترة غير عادية، نحاول مع من حولنا أن نربت على أكتاف بعضنا بعضا علنا نهدئ من النفوس. نتشاور حول أمور حياتية مثل ما سنطبخه فى اليوم التالى أو من منا سيذهب إلى اجتماع فى مدرسة الأولاد. فى الخلفية توتر سياسى عال ومستقبل قريب مبهم وأصدقاء ينضمون إلى قوافل من رحل عن البلد من قبلهم، ها أنا أخطط لحفلة لوداع شخص آخر قرر أن يتركنا. أنشغل بالتفاصيل قاصدة تجاهل الصورة الكبرى. تدخل الصغيرة بصخبها المعتاد وترتمى فى حضنى وهى تحاول أن تمنع أخويها من الانضمام إلينا. غابت الصورة الكبرى فى حضن الأولاد.
***
ماذا لو لم يكن لدى مأوى كهذا، غرفة جلوس أسعى طوال الوقت إلى لملمة الكراكيب منها، وينهرنى زوجى مذكرا إياى أننا لسنا فى مستشفى؟ ماذا لو لم يستكن المنزل بعد ساعات من الضجيج، ولم أفرد جسدى على الأريكة وأجول ببصرى فى غرفة المعيشة لأتأكد من أن الأولاد قد جمعوا أشياءهم قبل أن يناموا؟ ماذا لو لم أستطع أن أنظر إليه وهو يقرأ أو يكتب، فيكاد قلبى يقفز من مكانه وأنا أستعيد قصص وصور السنوات الأخيرة وأتساءل ماذا لو لم ألتق به؟
***
هنا، من مكان ما فى داخلى، تخرج نغمة مألوفة وأدندن مع صاحبتها. لو لم ألتق به يومها فمن المؤكد أننى كنت سأصادفه، هو نفسه، فى وقت لاحق وسوف تأخذنا سنواتنا معا إلى مساء يوم حافل بالتفاصيل اليومية، أجلس فيه قربه وهو يكتب، بينما أغنى مع الست «وإن كنت أقدر أحب تانى، أحبك أنت».