المَسْكَن - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
السبت 19 أبريل 2025 6:18 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

المَسْكَن

نشر فى : الجمعة 18 أبريل 2025 - 7:35 م | آخر تحديث : الجمعة 18 أبريل 2025 - 7:35 م

 من الراديو جَاء الصَّوتُ ليبعث فى فضاء العَربةِ حيويَّة لافتة: «أنا قلبى مساكِن شعبيَّة». دمدَم معه بعضُ الرُكاب، ولم يلبث أحدهم أن أمسك بالخيط مُتحدثًا حول تلك المَساكن التى تبنيها الدولةُ لمُتواضعى الحال؛ لكن الحديثَ لم يكُن بهيجًا كنبرات منير. أدلى كلٌّ بدلوه، وتذكَّرت بدورى امرأةً كادحة، تعول طفلين لا يُعيرهما الأبُ المُدمن اهتمامًا. صادفتها ذات يوم قريب تسعى للاستدانة مِن كلّ مَن تعرف؛ راجيةً أن تتمكَّن من دَفْع الرُّسوم المُقرَّرة والتقدُّم للحصول على شقَّة ضمن مشروعات الدولة. سألتها فى فضول عن المَبالغ المالية المَطلوبة لاحقًا، ومدى قدرتها على الالتزام بها؛ فجاءنى الصَمتُ جوابًا وحيدًا.

* • •

المَسكَن اسمُ مكان من الفعل سَكَن، وهو المأوى الذى يعيش فيه الناس؛ منه الفاخر مُترامى الأركان ومنه المُتواضِع مَحدود المساحة. الفاعلُ ساكنٌ والمَفعول به مَسكون، والمصدر سَكَن وسُكنى، أما الفعل سَكَن بمعنى هدأ فمصدره السُّكون.

•••

تُصمَّم المناطق السكنية عادة ليكنَّ إليها البشرُ فى غير أوقات الكدّ والعمل ويَنعمون بالراحة، والبديهيُّ ألا تندسُّ وسطها المقاهى والمَحالُ، وألا يُقوض اتزانَها صوتٌ عالٍ أو يُفسد وقارَها ضوءٌ مُبالغ فيه؛ على عكس ما نصادف فى أرجاء عديدة.

* • •

عُرِضَ مُسلسَل "أهلًا بالسُّكان" فى الثمانينيات، وقام ببطولته صاحبُ الحضور الرَّاسخ حسن عابدين. كنت آنذاك فى مَرحلة الطفولة؛ لكنى لم أزَل أذكر أغنيةَ المُقدمة وأظنها كانت تقول: "نحجز لك شقة فورًا.. لو جيبك كان مليان.. وبنود العقد أهى واضحة.. مكتوبة فى الإعلان.. سُكان آخر زمان.. زمان فلوس أكيد.. إيه يعنى نروح ضَحية.. عشان ما لناش رصيد.. غير حَبة ستر بس.. وارثينهم مِن زمان". قفزت الكلماتُ إلى ذهنى مؤخرًا وراحت تتردَّد بغير توقُّف، ناعيةً واقعَ الحال؛ فقد خَوى الجيبُ الملآن، وزال السَّتر مع توالى النكبات، وانكشفت ظهورُ كثير الناس.

* • •

إذا سَكَنَ واحدٌ لآخر؛ فقد ارتاح إلى وجودِه واطمأن. فى حَضرةِ بعض الأشخاص يُصبح الوجود أكثر أمنًا وسلامًا، تصغُر الأزماتُ وتضمَحِل، وتتلاشى المُحزِنات ويحلُّ مكانَها الرضاء. فى السُّكون لرفقاء الطريق تطبيبٌ لأوجاع الحياة؛ فإن غابوا أمست مُوجِعةً قاتمة وتوارَت من بعدهم القدرةُ على الاحتمال.

* • •

فى الستينيات غَنَّت فيروز "سَكنَ الليلُ" لجبران، ولم تكُن الأغنية من بين ما سَمعت فى البواكير؛ بل أذكر أننى تعجَّبت من المَدخلِ الموسيقيّ الذى قدمه عبد الوهاب فى مَقام الكُّرد؛ إذ جاء يقظًا مُمتلئًا بالحيوية؛ على عكسِ عنوانِ القصيدة الذى يشى بحالٍ من الرقة والكمون.

* • •

المَوضِع المَسكون فى المَوروث الشعبيّ هو هذا الذى تحدث فيه أشياءٌ عجيبة لا يُفسِّرها عِلمٌ أو منطق؛ تتحرَّك قطع الأثاث من مكانها، تُسمَع أصواتٌ بلا مصدر، تختفى أغراضٌ كانت موجودة، وقد يطال الأذى من يُصِرُّ على هَتكِ خصوصيته. اعتمد قسمٌ لا بأس به من أفلام الرُّعب على هذه الفكرة؛ فالبيت أو القَّصر القديم الذى لم يطرق أحدٌ بابَه لأزمِنة طويلة وأحاط به الغموضُ المُخيف؛ قد تحوَّل إلى أيقونة شِبه ثابتة فى عالم السينما؛ أما فى الواقع فلم تزل بعضُ المناطق التى تحوى أبنية مهجورةً عتيقة، مَوضِع رهبة لكثيرين.

* • •

إذا سَكَن البَحر وخفتت ثورةُ أمواجه وبات سطحًا مُستويًا لا يحدوه اضطراب؛ فقدَ هُويَّته. البَحر السَّاكنُ مُدجَّنٌ؛ لا يَهِبُّ ولا يَعترِض، ربما وَفَّر المُتعةَ للسَّابحين؛ لكنه عند مَن أرادوا الحركةَ وكرهوا الرُّكود؛ باعثٌ على الضَّجر كريه.

* • •

قد يتأتى للمرءِ التعاملُ مع المُنغِّصات التى تؤرِقه دون أن يفقدَ أعصابه، قد ينجح فى تسكين روحِه وترويضِ مشاعرِه، ويقطع شوطًا نحو امتلاكِ الحِكمةِ والرَّزانة؛ لكن انتهاجَّ الصَّبر والتزام الحلمِ لا يأتيان دومًا بالمُشتهى؛ فبعضُ المواقف تتطلَّب أن يهبَّ الواحد تاركًا لانفعالاته العنان، مُنتزعًا حقَّه ما كان مسلوبًا.

* • •

المُسكِّنات أنواع من العلاجات القادرة على كفِّ أوجاع الجَّسد، أما أوجاع النفس فلها أنواع من المُطيبات التى تزيلُ الكآبة وتخفِّف القلق؛ يلجأ إليها فى أيامنا هذه كثير الأشخاص، يقصدونها لأثرها المُلطِّف، ويَصِفونها لبعضِهم البعض دون مراجعة طبيب؛ حتى قد باتت فى حُكم الطعام والشراب، لا حذر تجاهها ولا ترشيد، والحقُّ أن النفوسَ التى تضجُّ بالشكوى تفقد سلامها الداخلى وتتوق لاستعادته بأى وسيلة.

* • •

ثمَّة مَن يُسكِنه علمُه الغزير مَكانةً مُرتفعة، ومن تُسكِنه مهارتُه مَرتبةً مُميَّزة، ومن تُسكِنه علاقاتُه المناصبَ العليا. كذلك ثمَّة من يَسكُن القلبَ ومَن يبقى مطرودًا خارجه، مَن يَسكُن الذاكرةَ ومن يَسقُط منها؛ والأخير نوع من الناس تغلبُ تفاهتُه على حضوره وتجعله والعدم سواء.

* • •

أحيانًا ما تسكُن العقلَ فكرةٌ مُلحة، تدفع صاحبُها لسلوكٍ مُتكرِّر ولو بدا غير مَعقول. بعضُ الناس يبحثون عن النظافة وبعضٌ آخر عن الأمان؛ يَغسل أولئك أيديهم عشراتِ المرَّات فى اليوم الواحد، ويُغلِق هؤلاءُ الأبوابَ ويُعيدون التأكد من تمام الإغلاق، لا يقنعهم شيء بالكفِّ عن فعيلهم؛ فالحالُ مَرضٌ لا يَخضع للمنطق، إنما يحتاجُ للمداواة.

* • •

غادر كثير القاطنين فى أحياء الطبقة المتوسّطة القديمة أمكانَهم، تركوها ليَسكنوا ضواحيَ بعيدةً على الأطراف. لم تعد مَواطنهم الأولى لائقة؛ فقدَت رونقَها بمرور الأعوامِ وتراجَع مُستوى المَعيشةِ فيها، وباتت الهِجرةُ الداخلية هاتفًا داعيًا لحزمِ الحقائب والتوجُّه نحو مناطق أكثرَ جذبًا وأفضلَ تنظيمًا .

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات