كانت تنذره بالرحيل ولكنه ككثيرين قبله وغيره لم يفهم أو هو لم يرد أن يتصور أنها قادرة على صنع مثل هذا القرار. فماذا عن إغراء المنصب أو اللحظة أو المرتب أو العائد المالى أو المركز فى المجتمع أو.. أو..؟ كثيرة هى المكاسب الصغيرة فى عالم اليوم وقليل جدا ما تكون المكاسب معنوية وعامة وليست شخصية ومادية بحتة.
• • •
أفهمته أنها راحلة بنفس الصفاء والبياض الذى حضرت به ولم يفهم أو هكذا بدا من تعابير وجهه، حتى حاولت أن تفسر له بأنها قد تعلمت منذ سنين طويلة أن السواد الذى يأتى من الخارج قد ينغرس بداخل الإنسان نفسه الذى كان ضحية له لو لم يعمل جهده على أن لا يسمح للبقع السوداء أن تسكن نفسه أو نفسها.
• • •
ترحل أو يرحل عن صديق، أو وظيفة أو قريب أو حتى حبيب فيسكننا الحزن بعض الوقت ثم يرحل تدريجيا فيحل مكانه بقعة من السواد لا تلبث أن تكبر كالدائرة فى الماء الراكد بعد أن يلقى به حجر، تتسع وتتسع حتى يملأ السواد المكان وقد يكون نفس ذاك المكان هو قلبك أو نفسك.
• • •
ما كانت تحاول أن تقوله له أنها لن تسمح بأن يبقى سواده وسوادهم أو سواد آخرين قبلهم وربما بعدهم أن يستقر فى باطن نفسها وبذلك يصبح كالسم البطىء الذى يتسلل إلى كل خلايا الجسد.. ولم يكن منه إلا أنه استغرب ذاك التعبير وبعد لحظات من التفكير نظر تجاهها ولكن ليس لها وقال: «كم هو جميل أن تستطيعى ذلك فقليلون منا هم القادرون على طرد السواد من دواخلهم رغم كثرة الإساءة».
• • •
عن تلك النقطة ناصعة البياض تحدثت، عن بياض يسكن النفس رغم تراكم الآلام والأوجاع والإساءات والجروح. عن بياض ينتصر على سوادهم رغم كثرته واقتحامه كل الحيوات التى ننتقل لها برغبتنا وأحيانا ربما ضد إرادتنا أو عكسها! عن نفس كان يعبر عنها البسطاء منا بتعبير «نفسك خضرة» هى تحمل مفاهيم عدة أن تكون نفسك خضراء أى لا زالت صبية، صغيرة، (لا أحب تعبير البكر أبدا ولا أطيق من يستخدمه باستسهال)، عاشقة للحياة، متطلعة للمغامرات على اختلافها وكثرتها حتى تلك التى تدخل ضمن قائمة محرماتهم الطويلة!! نفسك خضرة أو بيضاء ناصعة هى هى فى نهاية الأمر أن تبقى داخلك بعيدا عن تلوثهم اللفظى أو المشاعرى أو الوظيفى أو الطبقى أو السياسى أو القبلى، كلها ملوثات للنفس قبل الهواء رغم أنها أحيانا تتحول إلى جو خانق يخال للمرء فيه أن الهواء معبأ بالغازات السامة وليست هى سوى بضع بشر يحاولون الجلوس على صدورنا حتى الاختناق.
• • •
أن تبقى نفسك بيضاء وتحميها من سواد يطاردها، لهو إنجاز كبير فى جو ملىء بالغازات السامة المنبعثة من المصانع والعربات الفاخرة والبوارج أو باختصار التلوث المرتبط بالجشع، فبالعودة السريعة لكل أنواع التلوث يبقى الجشع هو السبب والمسبب الأكبر!!!
• • •
يقولون ادخلوا 2023 وما بعدها وما بعد بعدها برجلكم اليمين ونقول ادخلوها بتلك المساحة البيضاء النقية كالثلج والساكنة بهدوء والمتحصنة بقناعة أن الخير لا بد أن ينتصر أو هكذا نحلم، وأن كثيرا من القبح والشر لن يستطيع أن يبقى لو كبرت المساحات البيضاء بداخلنا قبل أن تكون فقط على ألسنتنا أو فى دعائنا فيما القلوب «مليانة» والنفوس مليئة بالبقع السوداء كبقع النفط المتسربة من تلك الباخرة فى شمال الخليج قبل أعوام وأعوام!
• • •
لا أعرف إن كنا سندخل العام الجديد برجلنا اليمين أو الشمال أو كليهما ولكن أتمنى أن يبدأ العام بالاغتسال من كل سواد أو حتى سحابة سوداء مرت بأيامنا وكادت أن تقتحم تلك النفوس المؤصدة فى وجهها والعامرة بالبياض.
كاتبة بحرينية