على ناصية جادة بارك افنيو و46 - خولة مطر - بوابة الشروق
الإثنين 23 ديسمبر 2024 8:29 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

على ناصية جادة بارك افنيو و46

نشر فى : الثلاثاء 1 يونيو 2010 - 10:24 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 1 يونيو 2010 - 10:24 ص

 فى زحمة نيويورك، مدينة أخرى لا تعرف الكثير من الهدوء على عكس الحال مع مدن أمريكية أخرى. تنوع نيويورك على تنوعات القادمين والمقيمين فيها. هى مدينة المدن ربما لأنها قادرة على جمع كل هذا الكم من الاجناس واللغات والأديان. تلونت نيويورك قبل أيام ليس بأنوار تايمز سكوير ولا شارع برودواى الشهير بمسارحه الشهيرة بل ببشر، كل يرتدى لباسه القومى الأساسى.

فهناك اجتمع السكان الأصليون من كل بقاع العالم للتشاور والتباحث فى همومهم والتذكير أيضا بحقوقهم.. فكان أن زادت «كوزمبولتينية» هذه المدينة بالتنوع الجميل.

هم أفراد من الماورى فى نيوزيلندا وحتى الفايكنج فى شمال أوروبا، فنغمة السكان الأصليين ليست كما يعتقد الكثيرون موجوة فى الدول النامية أو العالم الثالث بل هناك سكان أصليون فى العديد من الدول الصناعية. هنا مجموعات قدمت من كل بقاع الكون لتشارك فى مؤتمر عقد فى نيويورك خلال شهر مايو الماضى.

ولكن المثير فى نيويورك ليس القادمون اليها لمؤتمر أو منتدى أو السياح حاملى الخرائط وهم يسيرون يبحثون عن روكفولر سنتر أو متحق المتروبولتين أو تمثال الحرية أو المثير حقا هو هذا الكم من العمالة التى تسيطر على المطاعم ومحال الوجبات السريعة وغيرها. والملفت حقا التخصص الذى تقاسمته الجنسيات.

فالمطاعم على سبيل المثال حكرا بقدر كبير على القادمين من أمريكا اللاتينية (الوسطى أو الجنوبية)، أما الأكشاك التى تسوق الوجبات السريعة من هوت دوج وهامبورجر ــ وجبة الأمريكان المفضلة التى جعلت من السمنة أكثر ما يهدد هذا البلد ــ وغيرها فهى حكر على المصريين تستشف ذلك من أصوات الموسيقى القادمة والتى تتفاوت من أم كلثوم و«انت عمرى» وحتى موسيقى الشباب اذا صحت التسمية تصدح عند تقاطعات شوارع نيويورك بجاداته الواسعة.

تقترب فتسمع اللهجة المصرية المحببة فى المجمل فإن الواقفين هم من فئة الشباب وعادة ما يوفرون وجبات أكثر تنوعا من مجرد الأكلات الأمريكية السريعة فهناك على قائمة طعامهم الفلافل والشاورما واحيانا أكلات مكسيكية قد يكون فى ذلك أصول استقطاب الزبائن.

عند ناصية جادة بارك وشارع 46 والساعة لم تبلغ الثامنة مساء بعد، اقترب فيأتى الصوت أكثر وضوحا أغنية لأحد المطربين الشباب لا أتذكر اسمه أو أغنيته ولكننى سمعتها هناك فى القاهرة فى إحدى الجولات بالتاكسى. السمار هو السمار والابتسامة العريضة بدأ الشاب فى تحيتى بلكنة يحاول أن تكون أمريكية «كان آى هلب يو مام» فرددت بالعربية حينها وكأن سماوات الجنة قد فتحت لهذا الشاب تحولت ابتسامته إلى فرحة وضحكة وهو يردد «ما تقولى من الصبح انك عربية» تلك الدرجة من الاستقبال ازدادت مع معرفته بأننى أعيش فى بلده فى مصر.

وقبل التعارف المعتاد ردد جمال وهذا اسمه «أنا خريج حقوق بس هنا باعمل على هذا الكشك» وعندما اطمأن أننى لا اقيمه بما يقوم به وأنها مهنة ووسيلة للكسب راح يردد الاسباب وبين كل سبب وآخر عبارات غزل فى حنينه لمصر ونهر النيل والأهرامات وكثر الحنين حتى فاض وكان على أن أتركه فقد اصطف الزبائن خلفى قبل أن يرحل كل منهم قلت له أعود مرة أخرى فكان رده «انا كل يوم هنا فى هذه الزاوية» وكأنه يقول عودى ارجوك لنعيش ذكرى الوطن الذى يحب.

جمال هذا أعاد لى ذكريات عدد من المصريين العاملين بمحطات البنزين فى لبنان. هناك، كما نيويورك، تخصص المصريون فى العمل فى نفس المهنة. واهم بالطبع منتشرون فى عدد من المهن الأخرى ولكن يتم التركيز على مهن بعينها. وكما نيويورك أيضا، كنت فى لبنان التقى جمال ومحمد ومرقص وأنقل لهجتى إلى المصرية أو أعبر عن مدى حبى لمصر فأثير فيهم الحنين والشجون وتتفتح قلوبهم على ابتسامات هى وسع الكون الذى خلقوه والذى يبعدهم عن «هناك».

شىء ما يبقى هنا عندما نرحل للبحث عن لقمة العيش أو حتى عن حياة أفضل. شىء نتركه خلفنا وآخر نحمله معنا إلى حيث نرحل، إلى مدن تبدو فى برودة الصقيع ولكننا نحولها ــ كما جمال ــ إلى كثير من الدفء فينتشر ليشمل من نقدم لهم طبقا ساخنا أو شحنة من البنزين أو غيرها...

كما أن مثل جمال هم من يحولون تلك المدن، كنيويورك إلى شكل من المدن الكونية الجديدة فلا تشعر فى لحظة وأنت بها إلى ما يربطها بكثير من المدن الأمريكية بل هى فى الأقرب إلى العواصم الأوروبية التى هى الاخرى تلونت بالوان القادمين اليها.

هنا من يحمل بعض من بخوره، وآخر من نكهات بلده فى الطعام والملبس والمأكل، وهناك من يحمل موسيقاه ورقصاته، وثالث ينقل ثقافته فى التسامح وتقبل الآخر أو العكس أيضا.

تلك هى المدن التى تحولت إلى مدن معولمة بمعنى الكلمة. ليس بسلبياتها التى يتناولها الكثير من الكتاب وفى الكثير من الاحيان دون أن يعووا تفاصيل عولمة الاقتصاد والاجتماع أو حتى عولمة المدن أيضا !!!

المدن المعولمة هى التى تمتص الكثير من شباب الكون ليعمل فى العديد من المهن التى لا يعمل فيها سكانها ولكنها ومع الوقت ودون أى تخطيط تأخذ الطابع الأوسع وربما يسمح ذلك باتساع أفق أبناء هذه المدن أيضا لتقبل الآخر وفى الأزمات تنقلب الصورة فتزداد معاداة «الأجنبى» القادم وتسقط عليه كل كوارث ومصائب تلك المدن...

رغم ذلك لا نستطيع إلا أن نقول إن نيويورك بوجود جمال ازدادت جمالا وحيوية وإشراقا وتقبل للآخر عندما تصدح أصوات الأغانى بلغات غريبة فى الجادة الخامسة «الفيفث افنيو» أو عند تقاطع شارع 46 وجادة بارك. يقول ذلك الصديق البعيد «ليس النيل يروى فقط بل ابن النيل أيضا.. من الماء إلى الماء ومن الجيزة إلى نيويورك... هو العربى حين يبرد يحن لماء نيلها ودفئها. يلتحف بحنانها يلقى حزنه على صدرها فينبت الفرح بين ضفعتى قلبه... كم قلب هناك ليتسع كل هذا الحب؟؟؟

خولة مطر  كاتبة صحفية من البحرين
التعليقات