الحديث عما يجرى فى المجتمع المصرى هو إعادة إنتاج لما يتردد خلال الشهور الماضية. بطء إجراءات محاكمة الفاسدين وقتلة الشهداء، والخلافات بين الأحزاب والقوى السياسية حول الانتخابات أم الدستور أولا، ومحدودية الحضور الأمنى، وغليان المجتمع اقتصاديا واجتماعيا، وإلقاء مسئولية تدهور الأوضاع على «الثورة المضادة» و«فلول الحزب الوطنى»، والذين لا نعرف كنههم، ولم تبادر وزارة الداخلية بالقبض عليهم طالما أنهم ضالعون فى إثارة القلاقل. اللافت أن كل المسئولين فى مصر الآن يتحدثون عن «مخطط محكم» لإثارة الفوضى، وهناك تصريحات على ألسنة رئيس الوزراء وعدد من الوزراء تؤكد ذلك، ولم يحدث أن أعلن عن «تنظيم» يرعى الفوضى، ويقدم أعضاءه للمحاكمة.
الحديث فى هذه القضايا هو اجترار لأحاديث مكررة، وهو ما يدفع الشخص إلى التخلص مؤقتا من تفاصيل المشهد، والنظر فى «الصورة الكلية» للمجتمع المصرى، إلى أين يتجه؟ وهناك نموذجان مهمان، هما الهند وباكستان، هل ستتبع مصر النموذج «الهندى» أم النموذج «الباكستانى»؟
(1)
بدأ التحول الاقتصادى فى الهند عام 1991، أى فى الفترة تقريبا التى بدأت فيها مصر ما سمى بالإصلاح الاقتصادى، وشهدت الهند منعطفات حرجة أوشكت فيها على الافلاس، إلا أنها استطاعت أن تدفع القطاع الخاص على طريق النمو بالتخلص من الإجراءات البيروقراطية التى تعرقل حركته. اليوم، أى بعد نحو عقدين من الزمن الدراسات تشير إلى أن الهند سوف تصبح إحدى القوى الاقتصادية الكبرى فى العالم بعد عقد من الزمن، وربما تتفوق على الصين.
فى الهند يبلغ معدل النمو السنوى 9%، وإذا استمرت على هذا المعدل لخمسة عشر عاما سوف تتفوق على اليابان، وتأتى ثالث أكبر قوة اقتصادية عالميا بعد الولايات المتحدة والصين. وتمتلك الهند واحدة من أكبر صناعات «تكنولوجيا المعلومات» عالميا، وتقدم أبسط الخدمات إلى أعقدها ولاسيما فى تنمية الصناعات الدوائية، والقيام بدراسات جدوى للسوق، والخدمات القانونية، وهناك ثلث العاملين فى «سيلكون فالى» ــ وادى التكنولوجيا فى سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة، بؤرة صناعة البرمجيات عالميا، من أصول هندية. يضاف إلى ذلك أن حجم المدخرات المحلية يقترب من 40% من الناتج القومى الاجمالى، وهو ما يجعلها على مرتبة قريبة من الصين، وتتفوق إلى ما يصل الضعف على العديد من الاقتصاديات الكبرى فى العالم. وتنفق الهند ما يقرب من 9% من الناتج القومى الاجمالى على مشروعات البنية الأساسية، بما يوفر لها مساحة للانطلاق والتفوق الاقتصادى. والمجتمع فى الهند شاب، يصل متوسط العمر 25 عاما، فى حين أنه يرتفع فى الصين إلى 34 عاما نتيجة السياسة المتبعة (طفل لكل أسرة)، مما يرفع تدريجيا من الكتلة البشرية المعالة، سواء فى سن الطفولة، أو فى سن الشيخوخة، أما المجتمع فى الهند فهو شاب يحمل ثقافة المبادرة الخاصة. وإذا ما قورنت الهند بالصين، فإن نموذج التنمية فى الهند يمتلك مقومات تجعل فرص تفوقه على المدى الطويل أوفر، مرد ذلك إلى الديمقراطية التى تنتهجها الهند منذ استقلالها عام 1947م، والتى من أبرز معالمها التعددية، حرية التعبير، الانتخابات الحرة، وحرية تداول المعلومات. وهو ما يجعل المقولة السائغة بأن التنمية تنجح وتستمر فى ظل نظام سياسى تسلطى محل نقد. نعم فى الهند فقراء، وبعضهم يعيش فى فقر مدقع، ولكن لهم صوت فى السياسة.
(2)
باكستان، هى الجارة المنفصلة عن الهند، والتى شكلت لنفسها هويتها الذاتية المستقلة حول الإسلام. ورغم أنها انسلخت عن الهند، ودخلت فى صراع نووى معها وحروب ثلاث، إلا أنها سارت فى مسار اقتصادى وسياسى مختلف، جعلها تتراجع بخطوات كثيرة عن الهند فى الوقت الراهن، ويصعب التوقع بمسارها مستقبلا. عام 2010 مثل أسوأ عام بالنسبة لباكستان، نتيجة فيضانات الصيف، والأزمات المالية، وضعف الأداء الاقتصادى. معدل النمو لا يزيد على 4% سنويا، ومنذ عام 2001 زاد معدل الفقر بنحو 10%، مما يجعل هناك ما يقرب من 40% من السكان يعيشون فى فقر مدقع، يرافق ذلك تصاعد فى معدل التضخم بلغ ما يقرب من 25%. فقراء بلا فاعلية أو صوت سياسى.
ظلت باكستان فى صراع حول هويتها، مثلما نحن نعانى الآن، وحسب محمد على جناح ــ مؤسسها ــ فقد ظل يراوده سؤال: هل «باكستان دولة للإسلام، أم دولة يعيش فيها المسلمون»؟ أما جواهر آل نهرو ــ فى الهند ــ فقد كان تصوره لعلمانية الهند واضحا. القضية ليست فى هذا التصور أو ذاك، ولكن فى حسم القضايا الإشكالية بما لا يعيق تقدم المجتمع. وتأرجحت باكستان كما هو معروف بين حكم مدنى وآخر عسكرى، ودخلت فى حروب ثلاث مع الهند، ولم تستطع أن تنجز فى النهاية لا التنمية، ولا الديمقراطية. أحزاب أوليجاركية فى مواجهات مستمرة تتلاعب بها الأنظمة العسكرية المتعاقبة، وإعلام لا يستطيع أن يخرج من رحم النخبة العسكرية المدنية المهيمنة وإلا حرم من الإعلانات التى تدرها الشركات التابعة لها، وسياسيون يتعرضون لتهديد مستمر إذا تخطوا خطوطا حمراء. نموذج دولة فاشلة، تخضع لهيمنة أمريكية، ومرتع للجماعات الإرهابية، وليس لديها نموذج فى التنمية أو الديمقراطية.
(3)
فى مصر نحن أمامنا سؤال رئيسى: إما المضى على طريق التنمية والديمقراطية أو التعثر والتحول إلى دولة فاشلة اقتصاديا وسياسيا؟ مازلنا حائرين حول شكل الدولة، وموقع الدين فيها، وصدور وثيقة عن الأزهر الشريف ونخبة من المثقفين حسم بعض من هذه القضايا التى لم تعجب بعضا من الإسلاميين، والذين انتقدوها لأسباب غير مفهومة، بينما رحبت بها الأحزاب والقوى العلمانية الأخرى. وبعد أشهر قليلة على ثورة 25 يناير، القوى السياسية متفرقة مبعثرة حول الانتخابات أم الدستور أولا، ولايزال القطاع العريض من المجتمع مغيبا عن عملية التحول الديمقراطى يعانى من مظاهر التراجع فى الأداء الاقتصادى ومرافق الدولة، وهناك إدارة عسكرية يتمنى البعض رحيلها، ويتمنى البعض الآخر بقاءها، ودعوات تطالب بالديمقراطية، وأخرى تطالب بالاستبداد الذى يضع الزيت فى عجلة الاقتصاد ويعيد الأمن للشارع.. فى أى الطريقين نسير .. الهند أم باكستان؟