لا شيء يشبه رائحة أزقة مدينتك التى خلقت بها، لا شيء يشبه رائحة المدينة التى زرتها حتى سكنتك، لا شيء شبيها بأن تعود إليها بعد سنين قلقا ربما أو متوجسا أو حتى خائفًا من مشاهدات قد تشوه تلك التى رسخت فى الذاكرة حتى وضعتها فى مخزن من المخازن المليئة بذاكرة ازدحمت بالأحداث والوجوه والخيبات أيضا!
تحمل كثير من الصور وترحل نحوها، تردد أنك هذه المرة ستتحلى بالجسارة النادرة وتلوج هناك فى أعماق الذاكرة.. تشدك زحمة الناس، يدهشك المنظر فقد كانت تلك المدينة يوما تسترخى فى حضن الهدوء المصاحب لمدينة تحتضن البحر.. ولكنها اليوم بعيدة عنه جدا حتى ذاك البيت الذى تتذكره بحرقة والذى تحول إلى متحف صغير أو بيت للذاكرة هو الآخر اختلف عليك فقد كانت شرفته بطرازها القديم وأعمدتها وسقفها من خشب «الدنكل» يبهرك، خاصة عندما تطل الشرفة على البحر فتنظر لترى السفن الشراعية والتى كنا نطلق عليها «الجالبوت» ونحن صغار تمر من أمامك.. أما اليوم فقد بعد البحر عن المدينة واصطفت البيوت بل تلاصقت لا شيء سوى مزيد من الأسمنت الملون أحيانا بكثير من القبح الذى لا يشبه تراث وتاريخ تلك المدينة ولكنها المدنية وربما الزيادة السكانية ومتطلبات العصرنة وأسباب أخرى.
***
هو الصيف أو العيد فى فصل الصيف والشمس مستقرة فى وسط السماء تتطلع لك بنزر وترسل حراراتها لتحرقك حتى وأنت فى عربتك المكيفة.. والطرقات تتلوى لأنهم عندما توسعت المدينة ككل مدن البلد الذى هو وطنك لم يلتفتوا إلى التخطيط أو هم نسوه أو تناسوه أو ربما بسبب كثير من الفساد التوت الطرقات والتفت حول البيوت بدلا من أن تكون مستقيمة كما تعرفها مدن العالم كلها!
***
تسرع بعض الشيء حتى تصل لكل من سكنوا قلبك لسنين حتى وأنت بعيد، حتى وأنت قد سرقك الزمن وجرفتك اللحظات إلى أماكن أخرى كثير منها شديد الخصوصية والحساسية وأخرى حملت لك وجوه لتضيفها إلى خزانة ذاكرتك.
تصل العربة إلى المنزل الذى كنت تتصور أنك تعرفه بشدة ولكنه اختفى أكثر وأكثر بين البيوت المكتظة حتى اختفت ملامحه الخارجية على الأقل ولكن يبقى شيء من تلك الرائحة عالقًا بهذه المدينة التى كانت مرتع الطفولة البريئة الأولى.. تلك التى تعرفت فيها على معنى المحبة والتواصل والتلاحم والتضحية وحب الآخر مهما يكن هو أو هى مختلف عنك.
تصدمك الصورة الأولى أن النساء هنا لم يعودن كما كن، رغم أنك تعرف أن نساء بلدك كما نساء المنطقة قد تغيرن جدا ربما فى بعض الجوانب تراجعن بعض الشيء أو تراجعت مكانتهن عندما دخلت تفسيرات دينية على تفاصيل حياتهن اليومية ووقف رجل الدين وسيطا بينهن وبين الله أو الجنة!
***
تكتظ الشوارع بنساء متشحات السواد والوقت صيف والحر فى بلدك لا تشبهه بقعة أخرى وأجواء العيد تخيم على طقوس الأيام بتلاوين قوس قزح.. تتذكر جدتك وهى تجلس فى حوش البيت متشحة بثوبها التقليدى من القطن الناعم فى مجمله أبيض أو ألوان البهجة ولا تنسى كيف أنها وعند دخول رجل غريب إلى المنزل تحمل طرف ثوبها أو أكمامه وتغطى بها بعض رأسها ووجهها أحيانا وتمضى فى استقبال الزائر «الذكر» بل تقدم له الحلوى التى تشتهر بها تلك المدينة.. مدينتك والقهوة المنقوعة بالهال والزعفران وماء الورد.. ثم تتبادل الأحاديث معه ببساطة تشبه الماء أو تناولها للماء ثم يمضى الضيف وتعود هى إلى جلستها كما كانت بثوبها الأبيض كقلبها.
تعود لك هذه الصور لأن السواد قد ملأ العيد رغم أن صوت الموسيقى بدأ يعلو أكثر.. تتذكر تلك المدينة لأنها كانت البساطة كما هى كل مدن وطنك الأصغر والأكبر والتى تحولت فى فترة وجيزة إلى خيمة سوداء فوق رءوس نسائنا حتى المتعلمات منهن.. فهذا الدين الذى أتوا به حديثا لا يشبه ذاك الذى كان عندما كانت المساجد للعبادة والصلاة والتقرب من الله فيما أصبحت اليوم مراكز لنشر الرعب والكراهية.. تعرف أن المساجد ليست وحدها المذنبة حتى تثبت براءتها بل المدارس وتدرك من قراءة سريعة للصحف الصفراء التى بقيت بعد حملة «التطهير» العرقى للصحف وللرأى والرأى الآخر ولمساحات الحرية كلها، تدرك أن المدارس أصبحت هى الأخرى مركزًا للعتمة عندما اطفأت أنوار العلم ورفعت رايات التعصب والتخلف والقراءة الناقصة والمنحازة للدين الذى كان دين سماحة ومحبة!