قامُوس المُنتظِرين - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الإثنين 16 سبتمبر 2024 10:19 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قامُوس المُنتظِرين

نشر فى : الجمعة 2 أغسطس 2024 - 7:35 م | آخر تحديث : الجمعة 2 أغسطس 2024 - 7:35 م

"انتظر قليلًا حتّى تتمّ قراءةُ البِطاقة" عبارة ظَهرت على شاشة الماكينة، وانتظر الرُّجل كالعادة؛ لكن شيئًا لم يتغير. ضغط أزرارًا أخرى فلم يحصل على بغيته، أراد إلغاء العملية لكن بطاقته لم تُرَد له. ازداد عدد المُنتظِرين وتكوَّن وراءه صفٌّ؛ راح الواقفون فيه يقترحون حلولًا متفاوتة تبدأ بدخول البنك والشكوى، وتَصل إلى ضرب الماكينة بالقبضة؛ عساها تلفظ ما اقتنصت. انصرفت دون أن أصل لنهاية المشهد؛ فقد تكرر الأمر مرارًا وبات من المعتاد.
• • •
المُنتظِر بكسر الظاء فاعلٌ في حال ترقُّب يتوقع أمرًا وشيك الحدوث، وتقول قواميس اللغة العربية أن الفعل انتظر يعني بقى ولبث في حال توقُّع. المفعول به مُنتظَر بفتح الظاء، أما المصدر فانتظار، والشيء المَنظور هو الذي يظهر في الأفق، ربما على هيئة مادية ملموسة، أو كمجاز.
• • •
انتظار الفرج تعبير يدل على قلة الحيلة وعدم القدرة على تغيير الواقع. بعض الأحيان يقع المرء في حال كرب يستعصي عليه التعامل معها. تضيق به الدروب وتتقلص فرص التغلب على الملمة، ولا يجد أمامه سوى أن ينتظر ما تأتي به الظروف. الفرج هنا هو كل ما قد ينتشله من عثرته، سواء كان متوقعًا أو بعيدًا عن الإدراك، والكلمة في ذاتها موحية بالبراح والإيجابية وزوال القيود والمعوقات، وكثيرًا ما يقال في مواساة المكروب: فرجه قريب، في إشارة لقدرة إلهية تتجاوز فعل البشر.
• • •
بات انتظار عودة "السيستم" المُتعطِّل للعمل؛ بمنزلة انتظار جودو. يمضي المواطن إلى مقصده فيتلقى نبأ توقف الأنظمة الإلكترونية عن أداء مهمتها، ويبدأ في المفاضلة بين اللحاق بمواعيده الأخرى أو المخاطرة بانتظار قد يطول. جودو هو البطل الغائب في مسرحية صمويل بيكيت التي باتت من الواقع المعاش دون مبالغة ولا تهويل، جودو الذي لا يأتي أبدًا؛ عنوان لكثير الوقائع التي نمر بها. نقبع في أماكننا ونتوهم أننا نراه قادمًا؛ لكنه لا يجيء، نؤكد أنه لا محالة قادم ونعد العدة لاستقباله؛ ثم يخيب انتظارنا. ظهرت مسرحية "في انتظار جودو" أوائل الخمسينيات واقتُبِسَت منها أعمال مُتعدِّدة بلغات مختلفة، لتصبح بمُرور الزَّمن أيقونة خالدة يسخر بها الناس من أنفسهم.
• • •
يتمتع وقت انتظار نتيجة الثانوية العامة بحال من الترقب والهلع. هذه الحال لا تجد لها مثيلًا في مجتمعات أخرى ناضجة؛ تتعامل مع الدِّراسة وتحصيل العلم بأسلوب عاقل متزن. من يرى الشهور التي ينخرط الطلاب خلالها في رحلات مكوكية بين مراكز الدروس الخصوصية، وذويهم وهم يُصلُّون ويَلهجون بالدعاء وينشرون على مواقع التواصُّل أمنياتهم وتوسلاتهم بأن تمر الامتحانات على خير، ومن يرى الأمهات واقفات أمام اللجان المُنعقِدة إلى جانب هؤلاء الذين يتجاوزون كلَّ الحدود فيحملون مُكبِّرات الصَّوت ليذيعوا من خلالها بعض الإجابات؛ من يرى هذا كله يدرك أننا جدٌّ بعيدون عن إحراز أي تقدُّم على المستويات كافة، وأن انتظارَ الأجيال التي ستنهض حاملةً رايات المُنافَسة مع الأقطار الأخرى؛ هو انتظار أعمى.
• • •
المُنتظِر فاعلٌ لا يفعل شيئًا، يحمل المُنتظِر توقُّعات قد تُصيب أو تَخيب؛ يأمل أن تكون لصالحه ويخشى أن تأتي بما لا يُريد، وهو بين هذا وذاك في حال جمود تمنعه عن أي إنجاز وتحرمه الاستمتاع، وتجعله عالقًا في مكانه؛ فإن لم يُنه انتظاره ويَكسر الشَّلل الذي يعتري حياته؛ انتهى إلى مَوات تام.
• • •
قد يعاني المُنتظِر قلقًا غامرًا يصعب معه أن يستقر ولو لحظة، وقد يبدو هادئًا مسترخيًا لا مبالي. السِرُّ كامن في كُنه ما ينتظر؛ فنتيجةُ فحوص طبية تحسم وجود مرض من عدمه؛ لقادرة على استثارة أحاسيس قاسية، وحافلةٌ تأخَّرت عن موعدها قد لا تُقدِّم أو تُؤخِّر شيئًا بالنسبة لمُنتظِرها، بل قد يجد في وَضعه فرصةَ تأمل وتفكير أو عذرًا عن واجب لن يؤديه.
• • •
انتظار الآخرين طقسٌ يُغضِب أصحاب المواعيد الدقيقة، المثل يُضرب في العادة بمواعيد الألمان المَشهورة بالصرامة؛ فإن قيل: مصري وللا ألماني؟ في تحديد موعد لقاء، كان الفارق مجاوزًا لنصف الساعة أو ما يزيد.
• • •
ينتظر الأمريكيون وملايين الأشخاص الموزعين في أنحاء الأرض؛ نتائج الانتخابات الرئاسية القريبة التي يتبارى فيها نِدَّان؛ أحدهما امرأة ملونة، وذاك مَوقِف في عرف كثير الناخبين عصيب. ينتظر آخرون نهاية حرب فلسطين، فيما يتوقع البعض امتدادها لفترة أخرى طويلة ودخول أطراف جديدة ساحة المعركة لتزيد الموقف تعقيدًا. على صعيد آخر ينتظر الأشقاء السودانيون أن تعود الحال في بلادهم لسابق عهدها وأن يكف المتقاتلون عن الاقتتال فيما بينهم؛ لكن انتظارهم يبدو بلا جدوى، فصراع السلطة يغري بالاستمرار ولا بأس من إزهاق الأرواح في خضمه، ولا خجل أمام بريق الحكم وإغراءات التحكم في الثروة.
• • •
إذا طلب موظف في مصلحة حكومية من المواطن الواقف أمامه أن ينتظر قليلًا؛ فإعراب عن تململه من الإلحاح، ورغبته في التريث واسترجاع الإيقاع الرتيب. في مرات يكون الأمر أبسط وأسهل مما يوحي به الأداء، إنما هي العقلية المتراخية التي لا ترى في العجلة أهمية، ولا تجد في استثمار الوقت معنى، ولا تستوعب أن للدقائق والثواني قيمة.
• • •
انتظار حضور شخص لمدة طويلة تعبير عن مدى أهميته. في مسلسل "حالة خاصة" الذي قام ببطولته الممثل الشاب شديد التميز "طه دسوقي"؛ عبارة تكررت على لسانه "الناس المهمين بيتأخروا" والمعنى أن الأقل أهمية ومكانة؛ عليهم أن ينتظروا وأن يقنعوا بأحجامهم ويدركوا مكانة المنتظر. ليس الأمر دومًا على هذا المنوال؛ فبعض المرات يكون القادم على قدر من التفاهة عظيم، فيما تصور له ذاته ما ليس بها.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات