هو المرض ذاته.. معدى كالطاعون.. أو ربما هى سطوة الكرسى الذى رغم صغره احيانا يبقى كرسى بأرجل أربعة ومقعد صغير! رغم صغره فالجالس فوقه يتصور أنه ملك الكون وما فوقه وتحته.. ليس الكرسى السلطوى فقط بل هو أى كرسى بأى لون أو شكل أو مقام.. لكل كرسى سطوته وسلطته.
كثيرون ومنذ لحظات انتصار الثورات احترفوا لعبة الكراسى ينتقلون من واحد لآخر.. يبحثون عن مكان ومقام، حتى ولو كان ذلك باختطافهم لقب المحلل السياسى أو الاجتماعى أو حتى الرياضى.. يكثرون من ابتكار الالفاظ والكلمات والعبارات.. يكررونها ويمنحونها بريقا يبقى باهتا لكثرة اعادتها.. ثم ما يلبثون وأن يتحولوا إلى نعام!
قديما قالوا هناك شعرة دقيقة تفصل بين الثقة والتواضع هكذا نكرر بكثير من الملل.. عبارة لا طالما تعلمناها فى أحد فصول الدراسة فى زمن كان الفصل مدرسة وكانت المدرسة مربية وكان التعليم مزيجا من العلم والتربية.
●●●
فى مرحلة ما بعد انتصار الثورات أو تنحى الرؤساء كثر الهواة المحترفون للكلام.. للانصاف بعضهم وليس كلهم من الهواة. زادهم هو الحرف والكلام المنمق أو عبارات لا يملون من تكرارها حتى اصبح الجميع يكررها دون ان يدرك معناها.. ثمة إشكالية نعيشها اليوم وهى تكرار وتداول مصطلحات دون فهمها أو هضمها واستيعابها أو حتى الاتفاق على ان استخداماتها تصب فى نفس المعنى. وهذا مرض ليس سببه الإعلام فقط ولكن رجال السياسة أيضا فى دولنا جميعا دون استثناء، إلا أن هذا الداء ازداد شدة فى مرحلة ما بعد «نشوة الانتصار»! كل ينسب الثورة والنصر له.. كل قدم التضحيات ووقف فى «أم المعارك» أمام الجمال والاحصنة بجسده العارى ولذلك.. لكل ذلك يحق له ان يكون مغرورا اليوم.. أخذته أو اخذتها نشوة الغرور المقيتة والقاتلة وما هى سوى بضع خطوات فيتحول المغرور الى متسلط يأمر وينهى ويعزل ويوزع الالقاب والرتب فى مجتمع عششت به الطبقية حتى اعتنقها دين وديانة.. فكثر حملة الألقاب و«النياشين».
ذاك نفس الداء الذى كتب عنه فلاسفة وعلماء العرب منذ زمن وحذروا منه.. ذاك الداء الذى ازدرته الأديان والأنبياء ذاك الذى هو عكس التواضع. يقول سيدنا جلال الدين الرومى:
المسيح ركب الحمار لأجل التواضع
فكيف بالآخرين الذين يجب ان يسيروا فى الريح الغربية على ظهره؟
أيتها الروح، اجعلى رأسك باحثا وابحثى.
●●●
هم لا يدركون أن التواضع ما هو سوى غسيل للروح.. كلما ازداد الإنسان تواضعا كلما اقترب من قلب روحه.. المتواضعون يزهدون الظهور ويكثرون من الجلوس فى نور تواضعهم بعيدا عن أضواء وصخب المدن.. يبحثون عن الكراسى الخلفية فى الاجتماعات والمحاضرات.. يختفون بين البشر، يلتحمون بهم فيلتصقون أكثر وهم يبعدون «الأنا» القاتلة عن روحهم.. يخلقون عوالمهم، يكثرون من السباحة فى بحور الكتب وكلما أكثروا منها قالوا «هل من مزيد لا أزال أجهل الكثير.. لا زلت بحاجة للإبحار فى بحر المعرفة والعلم والخبرة..»! واذا ما دفعتهم الظروف للمنصات الارضية والفضائية راحوا يرددون «لماذا أنا هنا؟» فيما غيرهم يدفع حياته ثمن للحظة يحلق فيها فى فضاءات المدن الساكنة بصخب الكلام المنمق.. إنه التواضع.. ذاك الذى إذا ما سكن النفس تطهرت به الأرواح واستكانت.. إنه التواضع فعلا فتواضعوا قد تصحوا!
هم لم يقعوا فى حب الألقاب بل يمقتونها.. هم لا يكثرون من الاحكام على الآخرين ولا ينصبون أنفسهم قضاة وحكاما.. فقط يمهلون الخطى عندما تقطع طريقهم معلومة أو تزيدهم تجربة من المعرفة.. زاهدون هم حتى آخر نفس، لا يعرفون دروب المزادات العلنية ولا تأخذهم سكرات النشوة بالانتصارات الصغيرة.. بعضهم أنّث التواضع لكونه صفة أنثوية أكثر منها ذكورية رغم أنه يتساوى فيها البشر بمختلف أجناسهم وأديانهم وامزجتهم ومواقعهم.. إلا أنه ولربما تكون المرأة اكثر تواضعا من رجالات العرب اليوم.. ربما؟!