التقينا صدفة وكانت الرحلة طويلة والطائرة مزدحمة والزمن مر سريعا، سنوات منذ كان لقاؤنا الأخير فكانت فعلا صدفة خيرا من ألف ميعاد.. كل الحديث كان كعادة كل عربيين يلتقيان وقلبهما على هذا الوطن الممزق حتى آخر نسيج به وآخر وريد.. هو وزير سابق لأكثر من مرة ومدير لمنظمة عالمية لسنوات وإنجازاته ليست بالمناصب بل بقدراته من بين قلة من العرب الذين لم يقيرهم الزمن ولم تتحول بوصلتهم ولم تغلب مصالح ومكاسب شخصية على المصلحة العامة.. كل ذلك دون شعارات فى الوطنية ولا هتافات سخيفة ولا مشاعر جياشة ساذجة بل كلها تنبع من فهم عميق لواقع وقلق حقيقى على المستقبل.. هو تربى بين بحر ونهر وتنقل بين ناس هذا الكون كلهم من قارة لقارة.. هو كائن يحمل جناحين وقلب طفل برىء ولكن ليس ساذجا.. تحدث طالب الرفاعى الأردنى المولد، المصرى الهوى والعربى المزاج والإنسان الكونى الذى ينتمى لكل بقعة فى الكون وواحد من من غنى عنهم شيخنا الشيخ إمام «رجعوا التلامذه يا عمى حمزه للجد تانى».
***
أخذنا الحديث للعديد من زوايا الحياة والزمن ولدروس تجربة أعتقد بأن قليلا منا يمتلكها
إن لم يكن من النادر.. لم يكن الحديث عن السياسة فقط بل الاقتصاد والثقافة والسياحة بمفهوم الدكتور طالب وهى وباختصار فى رسالته الواضحة إن السفر يبنى ثقافة البشر ويجعلهم أكثر انفتاحا وتقبلا للآخر وينهى خطاب الكراهية والتعصب وهما أساس بناء المجتمعات.. ولأنه شديد التواضع لكل ما يملك من تاريخ وفهم ومناصب واحترام دولى، كان لا يمكن أن يفوتنا الحديث عن الغرور وشدته بين كل من يجلس على منصب ما مهما صغر أو كبر! ذكرنى بتلك القصة الشهيرة لوزير أمريكى سابق كان يتحدث أمام جمهور عريض وبدأ خطابه بقوله إننى قد تحدثت أمامك فى العام الماضى عندما كنت أحتل منصب وزير والآن أعود وأنا مواطن عادى.. وراح يقول عندما دعوتونى فى العام الماضى كانت رحلتى على درجة رجال الأعمال، استقبلت عند الوصول لم أمر بإجراءات المطار العادية وصلت إلى الفندق ولم أمر أيضا بالإجراءات كان هناك من قام بكل ما كان يجب عمله. انتقلت إلى غرفتى وعند موعد محاضرتى جاء من يأخذنى برفقة «حاشية» طويلة وعند القاعة قلت أريد قهوة قبل أن نبدأ فاحضرت لى القهوة فى كوب من الصينى. بينما الآن حضرت على الدرجة السياحية، أخذت تاكسى إلى الفندق؛ حيث لم يكن هناك من هو فى استقبالى وفى الفندق وقفت لأقوم بكل الإجراءات وعند حضورى إلى القاعة طلبت فنجان قهوة فاشر لى أحدهم إلى ماكينة القهوة عند آخر الممر ولذلك فأنا أشرب قهوتى فى كوب من الورق! هذا هو الدرس الذى أردت أن أشارككم فيه.. كم هو درس يحمل الكثير من المعانى وأهمها أن كل «العز» المصاحب للمناصب هو للكرسى وليس للفرد الذى يجلس عليه فلا تتصوروا أنكم أصبحتم أعظم لمجرد اللقب الذى حملتوه عند توليكم لذلك المنصب الهام.
***
بضعة ساعات مرت، استغل الجميع فرصة الرحلة الطويلة لأخذ قسط من الراحة ولم أستطع أنا إلا استرجاع وجوه وأسماء كثيرة لنساء ورجال احتلوا الكراسى وهناك تحولوا إلى درجة عالية من الغرور والتعالى على البشر حتى فى المناصب التى أساسها خدمة الناس.. ولم يفتنِ كثيرا من الوزراء والنواب وأعضاء المجالس المنمقة والمزخرفة وأصحاب الألقاب وطوابير المنافقين والفاسدين ووو.. آه كم هم بحاجة إلى أكواب من الورق ليفهموا الحياة ربما!
***
صور مركبة هى بعضها يدعو للضحك وأخرى للهزل أو الشفقة وكثيرا منها يدعو للقرف حقا.. من بين شق فى نافذة الطائرة تسللت أشعة من نور عند عبور المحيط والانتقال إلى زمن آخر على تلك الخطوط فتنتقل الساعة من ليل إلى نهار والزمن من ما بعد الحداثة أو ما قبل الهجرة!!! جاء المضيف يحمل أكوابا من ورق يوزع بعضا من القهوة والشاى فى ما يشبه توارد الخواطر ضحكت وأن أمسك بكوب القهوة الساخن بعد ساعات طويلة.. كم جميل أن تعرف أنك لا تحب أن تشرب فى كوب الكرستال حتى لو رافقه أى لقب وكم جميل أن تتعود أن كوب الورق هو الدائم لك وألا تنسى أن ما هو أهم من العلم هو الأخلاق والتواضع وأن محبة الناس هى ما يبقى عندما ينساك الكرسى وحاشيته!
كاتبة بحرينية