المعنى الشائع للتحرش هو جنسى بامتياز، يتعلق فى الغالب بالاعتداء على امرأة، وفى النذر القليل بملاحقة رجل، لكن المسألة أكثر اتساعا، لأن المتحرشين تحركهم عادة دوافع متنوعة، ويشكلون مجموعات تصول وتجول.
هناك تحرش جيلى، حيث تميل الأجيال إلى التحرش ببعضها بعضا، والتنابذ بالكلام، مثل جيل الكبار الذى يرمى الأجيال الأصغر بنقص الخبرة، وربما الاخلاق، وجيل الشباب الذى يلاحق الكبار بتهم الاستحواذ، والاحتكار، ورفض مجاورة السن الأصغر فى الحياة.
وهناك تحرش أكاديمى، حيث تميل مدرسة فكرية إلى رمى أخرى بنقائص الأمور، أو يدعى البعض احتكار موضوعات معينة للبحث والحديث عنها، ورفض دخول الآخرين ملعبهم، أو مناطق نفوذهم إن صح التعبير.
وهناك تحرش فكرى، للأسف نجده فى الموت أكثر من الحياة، عندما رحل الدكتور رفعت السعيد لاحقه الإسلاميون بتهم قاسية قبل أن يوارى جثمانه الثرى، ونفس الكلام واجهه منذ أيام الدكتور محمد عمارة الذى رحل أيضا عن عالمنا، حيث تلاسن مؤيدوه وخصومه، وكأن رحيل الناس أيا كان الموقف منهم فرصة للتنابذ، وليس لتبادل الرأى، والتفكير، والنقاش حتى لو انطوى على نقد.
وهناك تحرش بالتاريخ، حيث يميل أنصار حقب بعينها إلى رمى غيرهم بتهم قاسية، رأيناها فى الاحتفال بمئويتى الرئيسين جمال عبدالناصر وأنور السادات، فقد حدث تحرش بين أنصار المناسبتين اللتين تقاربا زمنيا العام الماضى، بل كان هناك من رأى وجوب الاحتفال بمئوية أحدهما وإنكارها على الآخر. نفس الكلام يسرى على العهد الملكى فى مئوية الملك فاروق فى مقابل العهد الجمهورى، وهكذا.
ولكنى أعتقد أن ذروة التحرش بالتاريخ حدثت الأيام الماضية فى أعقاب رحيل الرئيس الأسبق حسنى مبارك، فقد رأى أنصاره أن فى المناسبة دفن لثورة 25 يناير التى أطاحت به، رغم أن الدستور نفسه يحتفى بها، فى الوقت الذى تذكره بعض معارضيه باستعراض أحكام قضائية أدانته، ومقالات كتبت ضده، وتصريحات فى مواجهته...إلخ. والملفت أن كثيرا من الذين ذكروا مآثر الرجل، وإنصافا له الكثير بالفعل، كانوا من أشد الغاضبين، والرافضين لما حدث فى الانتخابات البرلمانية فى عام 2010، ولهم مواقف مسجلة ومعروفة.
الإشكالية إننا نضيع الفرص التى تسمح لنا بالتقييم الموضوعى، الذى يخلو من الهوى والرغبات النفسية الكامنة، ونقع أسرى تصفية حسابات الماضى، ولا نتيح لأنفسنا التفكير النقدى الذى ينظر إلى المستقبل.
هناك حقب كثيرة متعاقبة، وملوك ورؤساء كان لهم دور إيجابى وسلبى، المطلوب أن نفكر بإيجابية، ونتخلص من الحسابات النفسية. الملك فاروق أو الرؤساء عبدالناصر أو السادات أو مبارك، لكل منهم مآثر وإخفاقات، المطلوب دراستها، دون تحيز مسبق، ودون التماس الاعذار بأثر رجعى، بلا انطباعية سياسية، أو استخفاف بالتاريخ، فإذا كنا حكمنا على أنفسنا بأننا أمة تحترم زعماءها، وتاريخها، بالجنازة العسكرية للرئيس الأسبق حسنى مبارك، وهو أمر كان مشرفا فى رأيى، فإن احترامنا أيضا لأنفسنا يقتضى أن نقيّم المراحل التاريخية بما لها وما عليها، ننظر إليها فى الظروف التى أحاطت بها، والفرص والتحديات التى واجهتها، لأن ذلك هو أساس المعرفة الصحيحة التى ننقلها لأجيال متعاقبة، فالتاريخ يظل تاريخا، لا تدفن حقبة الأخرى، أو حدث يغلق ملف آخر، وإلا لما كنا نتذكر أحداثا فى التاريخ رغم أن أخرى طوتها.