فى تلك اللحظة عندما لا تعود تنتبه إلى أن موسم الجاردينيا قد اختلط برائحة المشمش على الرغم من أن بياضها زحف على الشرفات وأطراف النوافذ وعند الباعة وصناديق المشمش تزين محال الفواكه والخضراوات.. حينها وفى تلك اللحظة عُدْ للبحث عن أشيائك الصغيرة التى تعيد للأيام مذاق الحواس المفقودة.. فتنتبه عند ساعات الصباح الأولى أن شجرة الجاردينيا قد اكتست بياضا وتأتيك رائحتها من كل الأطراف تسارع الخطى وكأن الكون سينتهى والبشرية ستنقرض لمجرد أنك لم تشارك أو وصلت متأخرا لهذا الاجتماع أو ذاك، حينها عد لأشيائك الصغيرة لتعيد لك بعضا من البهجة النادرة..
***
عندما تتصور بأن إصدارك تقريرا عن الفقر والجوع والمرض سينهى آلام أطفال اليمن أو الموت الممنهج عند مشارف غزة وكل فلسطين أو أنه يخفف من معاناة السوريين والليبيين والعراقيين وكل سكان هذه الأرض التى كانت هلالا خصيبا وأصبحت مجرد أرض يابسة، حينها توقف وعُد لأشيائك الصغيرة أو أبحث عنها وإن لم تجدها فاخلقها أنت بينك وبين نفسك وحدث نفسك عنها لأنهم قد لا يفهمونك وهم مسرعون لجمع الملايين وهم يتسابقون للمناصب وهم يقتلون باسم العدالة والرفاهية، هم لن يفهموا كيف أن كوبا من القهوة مع جريدة الصباح الورقية وليست الإلكترونية ترسلك فى عوالم أخرى، وأن أغنية فى الصباح وأنت فى طريق عملك تأتيك عبر الراديو وكأنها هدية من شخص ما، تجعلك فى السماء السابعة، وأنك وفى نهاية يوم شاق ومرهق للأعصاب والمشاعر تبحث عن فيلم جميل ينقلك إلى عالم آخر أكثر رقة وحساسية ورفاهية وبساطة.. لن يفهموك حينها عندما تقول لهم إنك وفى اللحظات السوداء القاتمة فى مساراتك الطويلة والشاقة كنت تجد فسحة ربما هى زهرة أو أغنية أو فيلم أو حتى تجول فى مقاهى المدينة فى لحظات تأمل للبشر أو فى ضحكة طفل حتى القهقه أو صورة بالأسود والأبيض وضعتها فى صدر صالون منازلك الكثيرة.. حملتها معك من مكان إلى آخر هى الباقية بين الكثير من تراكمات ترحالك التى خزنت فى صناديق وأرسلت..
عندما تصطادك بعض عوارص المرض وتكثر زياراتك للأطباء ويتطفل الممرضون على تفاصيل قلبك وآخرون يمتصون الدماء منك أسبوعا بعد آخر.. وفى الأسبوع الأخير تخرج من ذاك البياض الذى حاولوا أن يلونه فتمشى الهوينا وتبحث بين كراسى المقهى على ركن هادئ وتبدأ فى النظر حواليك والبشر من خلف الزجاج يهرلون حتى الجرى وتردد على نفسك على مقربة من هذه الحياة تسكن المقابر التى لا ينتبه لها أحد على الرغم من أنها تتصدر قلب المدن أحيانا وعلى الرغم من أنه لا مدينة دون مقبرة.. وترى المنهمكين خلف أجهزة الكمبيوتر المحمول غير مكترثين بما حولهم حتى أنهم يدخلون عوالمهم الخاصة جدا وينفصلون عن المحيط الواسع من حولهم.. عند ذاك عد لأشيائك الصغيرة وابحث عنها وتمعن فيها.. وَأَعِدْ: كم أنا محظوظ بهذه الحياة لو عرفت كيف أعيشها.. كم قد تكون هى أبسط من تعقيداتنا الكثيرة التى نضيفها عليها وكأننا نريد أن نقطف كل شىء فنخسر كل شىء وأحيانا حتى أنفسنا..
***
عندما تلتقى بأصدقاء كنت تحسبهم مقربين جدا وفجأة فرقتكم المسافات أو حوار الشارع ووسائل التواصل المحتدم بخطاب الكراهية فتجد أنهم سقطوا فى نفس ذاك الذى يرفضون، حينها انسحب كما الغيمة الصغيرة وسط سماء مكتظة بالسحب وعد لأشيائك الصغيرة حيث تبقى توازنك فى عالم غير متوازن وغير منطقى..
فى تلك اللحظة التى يدخل الخبراء فى نقاش سفسطائى كثرت فيه العبارات التى خلقتها بعض المنظمات لتبرر وجودها واستدامتها حتى أدمنوا هم لغة بعيدة عن لغات كل البشر فأصبحوا يتحدثون لغتهم الخاصة بشىء يشبه القبلية الجديدة، فى نفس ذاك الاجتماع أرسل قلمك فوق أوراقك البيضاء وأرسم نخلة حبلى «برطب» صيف بلدك وتخيل أنها إعادة لك ذاك الصيف البعيد فى الطفولة الأولى عند أول قطرة ندى وابتسم حتى يتصور الحضور بأنك أصبت بمسة من الجنون أو ما يشبه وقد يحيلونك إلى قوائمهم الخاصة بين فئة المجانين أو المشاغبين وأحيانا تبدو المسافة بينهما ليست ببعيدة أو هى متلاحمة!!!
عند كل تلك الأوقات لا تنسَ أشياءك الصغيرة.