تتقلص المشاهد حتى تصبح شكلا من بقايا الذاكرة وتصبح الصور القديمة بالأبيض والأسود أو حتى بالألوان التى بهتت بحكم الزمن وعوامل «التعرية»، تلك التى تحولت لمادة تتداول بين الكثيرين تحت عبارة «صدق أو لا تصدق» هكذا كنا.. نحن سكان هذه المنطقة الممتدة من بحر العرب حتى الأطلسى ومن الخليج حتى المتوسط مرورا بأنهار وبحار وبحيرات.. هذه التى أصبحت تسميتها تثير الكثير من الحساسيات، هذه التى كانت موزايك من البشر مختلفين بألوانهم وأعراقهم وطوائفهم وحتى اتجاهاتهم وقناعاتهم السياسية منها والاجتماعية.. كان للجميع مساحة هنا لم نكن على اتفاق معها كلها ولكنا لم نكن أيضا على استعداد لاغتيالها لمجرد أننا نختلف معها كما حالنا اليوم.. يتجرأ البعض لتوجيه الاتهامات الكثيرة ومنها المبطن أو بالغمز واللمز لقناعات الآخرين أو انتماءاتهم، حتى إن ذاك الصحفى المخضرم خرج من جلد حزبه السابق وهذا حقه طبعا ولكنه لم يعرف بعد ذلك سوى أن يحول أعمدته بتلك الصحيفة إلى مادة للنقد الدائم وأحيانا تتحول إلى شكل من أشكال «الردح».. تخلص الكثيرون منا من جلدهم وهذا حق للجميع بل إنه طبيعى جدا فمع الزمن تنضج التجربة للمرء فيعيد قراءة الكثير من قناعاته السابقة ولكن أن يصل حتى يشتمها؟؟!!
أو أن تصبح مادة للسخرية والتهكم.. تحضر هذه الأفكار مع استعادة الاحتفالات بأعياد العمال التى كانت فى مرحلة من تاريخنا الحديث مادة للفخر والاعتزاز بطبقتنا العاملة المنتجة التى بسواعدها تبنى الدول، والدولة حتما ليست النظام ولا الحاكمين هم الدولة كما يتم الخلط.. وهذا حال ليس بعيدا عن دول العالم التى لاتزال تحتفل بالأول من مايو ولاتزال ترى فى عمالها وفلاحيها مادة للاعتزاز والفخر، ولذلك فهى تستحق أن يحتفى بها دوما..
•••
فى تلك المشاهد التى لا تبعد أكثر من السبعينيات من القرن الماضى كانت مسيرات العمال فى الأول من مايو حدثا لا يمكن أن تمحيه الذاكرة تسير الجموع فى نظام شديد، مكررة لشعارات لا يمكن أن توصف إلا بالكثير من حب هذا الوطن متمنية ومطالبة بحقوق مازالت تبدو شيئا من الحلم صعب المنال، والعالم يتمترس دفاعا عن رأسماليته المعادية للعمال والعاملين على اختلافهم وتنوعهم. ففيما يتصور البعض أن عيد العمال هذا حكر للعمال أصحاب الياقات الزُرق فقط أى عمال المصانع، وأولئك من الدرجات السفلى فى سلم الوظائف، يبقى هذا تفسيرا ضيقا للمفهوم فكلنا عمال وعاملات أينما كنا وحيثما كان منصبنا أو درجتنا..
فى الأمس خرج العمال.. كثير منهم فى عواصم لم تشهد مسيرة لهم منذ سنين طويلة حتى تصور بعض الساسة أن هذه الطبقة قد دفنت هى بمطالبها وانتماءاتها ومسيراتها وحقوقها.. فانتصر رأس المال المتوحش على كل تلك المفاهيم فى الحقوق الأساسية فى العمل التى لاتزال العديد من المنظمات تنادى بها وتعمل على تعزيزها.. ورغم أن الكثير من تلك المسيرات ووجهت، كالعادة، بالصدام مع الأجهزة الأمنية رغم سلميتها إلا أن الكثير من الصحف لم تشر إليها إلا البعض وباستحياء ومن بعيد.. شىء ملفت للنظر أو كأنه اتفاق عالمى على هذه الطبقة عليها أن ترحل لتصبح مادة فى كتب التاريخ !!!
•••
أعاد العيد لبعض الميادين حيويتها وعادت مشاهد خراطيم المياه والغاز المسيل للدموع لتبدو هى المادة الوحيدة لمواجهة المحتجين أو المحتفلين أينما كانوا، فيما طوابير العاطلين تلتف على خاصرة الأوطان حتى تختنق بها.. كلما تحدثت مع شاب أو شابة كان الهم الأوحد أين فرصة العمل وكيف أحصل عليها؟؟ ويبقى الواحد منهم متسلحا بسلاح العلم والمعرفة ورغم ذلك تبدو الوظيفة أبعد عنه أو عنها من الغيم السابعة حيث يعيش ويعشش بعض القائمين على هذه الحكومات والدول.. لا فضاء للعاطل أو للعامل سوى المسيرات ليرفع صوته مدافعا عن بعض حقوقه ومطالب بكثير من الحقوق التى سحبت منه تدريجيا حينما كثر الحديث عن موت الطبقة العاملة واليسار وارتفعت أصوات تحمل تلك الطبقة والشباب العاطل كل مآسى الوطن وانهيارات اقتصادياته الريعية الهشة.. هكذا أصبح العمال والعاملون والعاملات جزء من ماض علينا طمسه أو نسيانه لنصبح كلنا تجارا للأراضى والعقارات وعاملين فى مراكز المال وتجار حروب أيضا وندفن المصانع والمزارع فى مقابر النفط المعتمة..