ثورة يوليو .. بين الانقطاع والاتصال - كمال مغيث - بوابة الشروق
الإثنين 3 مارس 2025 11:18 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

ثورة يوليو .. بين الانقطاع والاتصال

نشر فى : السبت 4 يوليه 2009 - 4:40 م | آخر تحديث : السبت 4 يوليه 2009 - 4:40 م

 فى مثل هذا الشهر من سبعة وخمسين عاما استقبل المصريون واحدا من أهم أحداث تاريخهم الحديث، ثورة يوليو، بقيادة اللواء محمد نجيب، كما أعلنت الثورة فى أول بياناتها. والأمر الذى لا شك فيه أن الشعب بجميع فئاته وطبقاته قد استقبل الثورة بحفاوة لم يسبق لها مثيل، تؤكد هذا عشرات الصور والمقالات المعاصرة والمذكرات الشخصية للساسة من مختلف التيارات. وقد كان طه حسين هو أول من أطلق على حركة الضباط كلمة «الثورة» ــ أغسطس 1952 ــ رغم أنه كان وزيرا وفديا قبلها بستة أشهر فقط، وربما لم يتوجس من الثورة فى بداياتها سوى بعض رجال الحاشية الملكية وأحزاب الأقلية الصغيرة التى طالما استخدمها الملك فى انقلاباته الدستورية على حزب الوفد، وما يصاحب ذلك من إعلان للطوارئ وإطلاق يد القلم المخصوص فى التنكيل بأعداء الملكية، وصل إلى حد اغتيال الشيخ حسن البنا والضابط عبدالقادر طه.

كانت الديمقراطية قد وصلت إلى طريق مسدود بسبب تلك الانقلابات الدستورية، كما وصلت القضية الاجتماعية إلى طريق مسدود أيضا، بسبب جمود النظام الطبقى وهيمنة كبار الملاك والرأسماليين على الأحزاب والحياة السياسية كلها. يظهر هذا من ردود الأفعال الحزبية على بعض المشروعات الإصلاحية الاجتماعية التى عرضت فى البرلمان ــ مشروع خطاب باشا 1946، ومشروع إبراهيم شكرى 1950 ــ كما حملت قيادات الأحزاب كلها ــ بما فيها الوفد ــ عداء شديدا للحركة الفلاحية والعمالية المستقلة، وهو ما برر اتساع القاعدة الجماهيرية للإخوان المسلمين والحركة اليسارية..

وهكذا ضاق النظام السياسى والاجتماعى على أحلام الشعب فى العدل والحرية، فجاءت ثورة يوليو لتكون بمثابة طوق النجاة لتلك الأحلام، مع ما صاحبها من إعلان قوانين الإصلاح الزراعى وإلغاء الرتب والألقاب، والهالة الرومانتيكية التى أحاطت بالثوار من أبناء الشعب البسطاء فى زيهم ومسلكهم ومنطقهم.. وهكذا مثل الثوار فى هذه النقطة انقطاعا عن النظام الرسمى القائم، برره اجتماعيا تبنيهم لأحلام الشعب فى العدل والحرية.

وعلى الرغم من إعلان الثوار فى أيامهم الأولى أن قضيتهم هى صيانة الدستور من عبث الملك وتسليم الحكم للأحزاب بعيدا عن استبداد الملك وفساده، فإنهم سرعان ما أعلنوا انقطاعهم عن ذلك الدستور والنظام الرسمى برمته، بإعلانهم إلغاء الدستور ثم الأحزاب كلها ورفض جميع أشكال التعبير والتنظيم السياسى المستقل، والاكتفاء بحشد الناس خلف السياسات الاجتماعية البراقة والإنجازات الوطنية الباهرة.

وهكذا استبدلت ثورة يوليو الحشد الجماهيرى الكاسح خلف السياسات الشعبية بالديمقراطية العرجاء والإصلاح الاجتماعى المحدود.

ومن هنا جرت فى نهر الوطن مياه كثيرة، ودخلت الثورة معارك الاستقلال الوطنى وحرب 1956، وتجربة الوحدة، والقرارات الاشتراكية، وهزيمة يونيو 1967، وحرب الاستنزاف..

ومات عبدالناصر، وجاء سلفه ونائبه وأحد ثوار يوليو، لينقض على الجناح الراديكالى للثورة فى مايو 1971، ويسعى رويدا رويدا لتغيير سياسات سلفه الكبير، فيتقارب مع الرجعية المحلية والعربية والولايات المتحدة، ويقطع أواصر الصلة بالمعسكر الاشتراكى، ويستبدل المنابر والأحزاب بالاتحاد الاشتراكى العربى ويتصالح مع إسرائيل، ويستبدل الانفتاح الاقتصادى بخطط التنمية الاجتماعية ذات الأبعاد الاشتراكية، ويحتضن التيارات والجماعات الإسلامية التى قتلته، والتى كان عبدالناصر يناصبها العداء.

ثم جاء مبارك ليجرى فى نهر الوطن مياها أكثر وأكثر.. فاستعاد الإقطاعيون أراضيهم، وباعت الدولة مصانع القطاع العام إلى أصحاب رأس المال محليين وعرب وأجانب، وعاد التفاوت الطبقى كأشرس ما مر بمصر عبر تاريخها الطويل، وتدهورت مكانة فئات التكنوقراط والبيروقراط إلى حد التكفف، وهم الذين بنت الثورة أمجادها الوطنية على أكتافهم، وتدهور التعليم المجانى والعلاج المجانى إلى أبعد الحدود، وقاربت معدلات الفقر أكثر حدودها خطورة وهى تقترب من رقم 30 %، وأصبحت فكرة الانتماء الوطنى أثرا بعد عين ونحن نشاهد آلاف الشباب يلقون بأنفسهم فى البحر بحثا عن القوت والكرامة ــ حتى ولو فى السجون الأوربية، وأدت سياسات الخصخصة وإعادة الهيكلة إلى إلقاء عشرات الآلاف من الموظفين والعمال على قارعة الطريق، واختفى المشروع القومى، واستبدلته الحكومة بالقرى السياحية والمنتجعات وملاعب الجولف أو بالكبارى والأنفاق فى أحسن الظروف، ونزلت الثقافة المصرية عن عرشها التقليدى لتعيش أسيرة ثقافة بدوية طقسية متزمتة ومتطرفة تدفعها رياح الصحراء الشرقية المحملة بالأتربة والبترو دولار.

المهم أن هذا كله مما جرى للوطن وما يجرى فيه يبدو انقطاعا عن ثورة يوليو، وجملة اعتراضية طويلة فى مجراها الذى أسس للاشتراكية والتصنيع والاستقلال الوطنى والعدل الاجتماعى ومناوأة الرجعية والامبريالية والصهيونية.

وأنا هنا لا أسعى إلى تقييم ثورة يوليو أو تقديم كشف حساب عن مالها وما عليها، وإنما أريد أن أؤكد على أن ما يبدو انقطاعا عن مجرى الثورة ليس حقيقيا، نعم هو بالتأكيد انقطاع على مستوى الوقائع والإجراءات والسياسات المباشرة، ولكنه ليس كذلك على مستوى الأسس والمبادئ التى انبنت عليها تلك السياسات المغايرة، يؤكد ما أذهب إليه ثلاثة عناصر:
الأول :إن ما تم من إجراءات ومشروعات ارتبطت بالثورة إنما تم عبر آلة الدولة وجهازها الحكومى والإدارى، وعبر قرارات وسياسات سلطوية بعيدا عن حركة الجماهير وتنظيماتهم وجمعياتهم المستقلة، ولكى تتمكن الدولة من إنجاز مشروعها فإنها قد عصفت بالدستور والقانون وحقوق الإنسان ومختلف الحريات السياسية والحيوية الثقافية، ولا يستطيع أحد أن يقول إن ما فقدناه كان ثمنا بخسا لما قد كسبناه من عدالة اجتماعية وتنمية اقتصادية، فالأمر أعقد من ذلك بكثير خاصة أن ما كسبناه قد ذهب مع الريح بنفس الآليات.

والثانى: أن نظام يوليو لم يتعرض منذ 1952 لغزو خارجى، قامت به قوى معادية، فقد كان السادات رفيق درب عبدالناصر، ومعاونه ومعينة ولم يختلف معه كما اختلف يوسف صديق أو خالد محيى الدين أو كمال حسين وغيرهم، وإنما ظل لصيقا به على مدى عشرين عاما.. فلا بد أنه قد تعلم منه وشرب منه الصنعة، صنعة سياسة الناس والدولة، وإذا كان السادات قد عصف بفريق من السلطة فإنه قد فعل ذلك مستعينا بفريق آخر من نفس السلطة، وهكذا جاء مبارك، كما جاء السادات، بقرار سيادى منفرد، لا يملك أحد إزاءه المناقشة فضلا عن الاعتراض.

أما العنصر الثالث الذى يؤكد اتصال واستمرار يوليو: فهو أن نظام يوليو بزعامة عبدالناصر قد أرسى ثلاث قواعد ذهبية نمت واستمرت واستفاد منها كل حاكم تلاه، ولم تترك تلك القواعد الثلاث أهمية كبرى لزهد عبدالناصر ونزاهته مقارنة بنزعة السادات الاستعراضية وحبه للفخفخة ورغد العيش، القاعدة الأولى: أن الحاكم الرئيس، هو رأس الدولة ورئيس سلطاتها الثلاث تنفيذية وتشريعية وقضائية، ولا قبل لأحد لمساءلته أو مراجعته أو محاسبته، أبدى خالد فى كرسيه، يغير ولا يتغير، ولا قبل لسلطة أو مادة من الدستور بوضع حد لتصرفاته فى مجال من المجالات.. والقاعدة الثانية: أن المواطن لا حول له ولا طول أمام إله الدولة وسلطانها، فالمواطن لم يصبح بعد كيانا قانونيا يستطيع الوقوف فى وجه الدولة وانتزاع حقه منها سواء كان حقا طبيعيا أو مكتسبا أو حتى خدمة قررها الدستور والقانون.. والقاعدة الثالثة: أن الأمن والمقصود به تحديدا أمن نظام الحكم، أصبحت له اليد الطولى فى مختلف شئون الحياة والمجتمع، أحزاب ونقابات، مجتمع مدنى، تعيينات أو تراخيص الصحف، أنشطة ثقافية وسياسية وغيرها من مختلف الأنشطة السياسية والاجتماعية.

تلك قواعد ثلاث استقرت ورسخت منذ بواكير يوليو، ومازالت تفعل فعلها فى تعطيل بلدنا عن النهضة والتقدم واللحاق بركب الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان..

فهل انقطعت ثورة يوليو وانتهت، أم أنها اتصلت واستطالت ربما أكثر من اللازم.

كمال مغيث  باحث بالمركز القومي للبحوث التربوية
التعليقات