الحضارة المصرية ظلت على طول تاريخها حضارة العمل الشاق والجهد الدؤوب، فهى حضارة زراعية، وما كان من الممكن أن يستطيع الناس سكنى وادى النيل قبل أن يتمكنوا من تجفيف المستنقعات التى أحاطت بالنهر وتهيئتها للزراعة، فضلا عن انتزاع الغاب والحلفا والبردى التى أحاطت بالنهر، ثم حفر القنوات والترع، وإنشاء التلال أو الأكوام التى أقاموا فوقها قراهم، حتى لا يجرفها فيضان النهر الهادر، هذا فضلا عن استئناس وتربية الحيوانات والطيور. وإذا تقدمنا درجة أعلى فى سلم الحضارة فسنجد المصريين وقد قدوا الحجارة الضخمة من محاجرها، ونقلوها بأحجامها الهائلة مئات الكيلومترات، ليقيموا منها الصروح والأعمدة والتماثيل والمسلات الخالدة، بعد أن يبذلوا جهدا رشيقا فى هندستها ورسمها وحفرها حفرا غائرا أو بارزا.
ولان العمل كان أساس الحضارة وأكل العيش لدى المصريين فقد ذخر تراثهم الثقافى بتمجيد ذلك العمل، انظر مثلا: الإيد البطالة نجسه، اسعى يا عبد وأنا أسعى معاك، ازرع كل يوم تأكل كل يوم، محدش بياكلها بالساهل، أكل العيش مر.
وسوف أحاول هنا إلقاء الضوء على بعض تلك المهن التى تشير إلى احتيال المصريين لكسب القوت. بعض تلك المهن قد انقرضت وانتهى زمانها وبعضها نشأت وازدهرت. ولا نقصد بالاحتيال هنا المعنى الشائع للنصب والتدليس وإنما نقصد بذل الجهد واستفراخ الوسع، وكما يقول طه حسين «يحتال للعلة حتى يبرأ منها ويحتال للفقر حتى يخرج منه».
وأول تلك المهن التى انقرضت تلك المهنة الغريبة التى كانت تسمى «التصييف»، وكانت تنتشر فى القرى فى مواسم الحصاد. حيث تظهر سيدة من الفقيرات بين الحقول تحمل على كتفها كيسا كبيرا من القماش يحوى بعض الحلوى اللذيذة أو بعض الإكسسوار الرخيص مع علبة تحوى بعض السردين والملوحة. تسعد الأم بالسردين الذى يغنيهن عن عناء التفكير فى غداء عمل لأطفالها وزميلاتها اللاتى يساعدنها فى العمل، ويسعد الأطفال الصغار بالحلوى والإكسسوار. كل هذا تمنحه السيدة مقابل أن يدعها صاحب الحقل تتجول فيه بحثا عن كيزان الذرة أو سبلات القمح المنسية بين الحشائش.
ثم تأتى مهنة «الأبونيه» فقد كانت المواصلات إلى القاهرة شحيحة وغالية الثمن بالقياس إلى غالبية أهالى القرى والبلاد من الفقراء، والذين كان لكثير منهم مصالح وحوائج يحتاجون قضاءها من القاهرة، من هنا تأت مهنة «الأستاذ فلان الأبونيه» والأبونيه ــ كما نعلم ــ هو كارنيه يتيح لحامله أن يسافر بسعر مخفض، ويدور هذا «الأستاذ الأبونيه» على أصحاب الحوائج: أب يريد أن يرسل لابنه الذى يدرس هناك ويعيش فى بولاق الدكرور، بعض النقد المحدود، مثقف ريفى يريد شراء الكتاب الفلانى من دار الهلال، سيدة تريد أن تبعث لأقاربها فى روض الفرج بعض الزبد والجبن، بنات يردن شراء مجلة حواء وبعض الترتر وخرج النجف من الموسكى، واحد يريد استخراج شهادة من دار المحفوظات بالقلعة. ولقد شهدت بنفسى من يريد من «الأبونيه» أن يقرأ له الفاتحة فى مقام «الست أم هاشم»، وبالطبع يدفع كل صاحب حاجة بعض القروش التى يقنع بها «الأستاذ الأبونيه» مكسبا يعوضه عناء السفر والشحططة فى «تروماى» القاهرة طيلة النهار.
وهناك أيضا مهنة تبييض النحاس إذ ينادى فى الحى مناد يقول: «أبيض نحاس أبيض»، وفى أحد الوسعايات يشعل المبيض النيران وتأتى إليه السيدات بحلل النحاس التى اسودت من الصناج الذى يصاحب نار وابور الجاز أو الكانون، وبعد أن يدعك المبيض النحاس لتنظيفه يقوم بتسخينه ويمر عليه بإصبع من القصدير الذى يذوب على النحاس المتوهج وتعود الأوانى النحاسية إلى لون القصدير اللامع.
ومن المهن التى انقرضت أيضا مهنة السمكرى الذى يصلح بوابير الجاز والكلوبات بعد أن انتشر البوتاجاز أو الغاز والكهرباء فى القرى والبلاد.
ومن المهن التى انقرضت أيضا القراقوز الذى لم يكن يتطلب سوى «زمارة» من الصفيح والجلد فى حجم أقل من نواة حبة الزيتون يضعها الرجل فى فمه وبرفانا خشبيا تقف وراءه العرائس المحببة: السيدة، العمدة، الخفير ثم القراقوز البطل بصوته الذى كان يسحرنا ونحن أطفال فى حكايات ساذجة تزخر بالعنف والبذاءة والجاذبية فى نفس الوقت. ومثل ذلك مهن الحاوى ونافخ النار وآكل الزجاج والنائم على المسامير، والذى يطلب رجالا أشداء يربطونه بالحبال ليتخلص منها وأظن أنها قد انقرضت جميعا وربما تظهر على استحياء فى هذا المولد أو ذاك.
ومن المهن التى بدأت وصنعتها الظروف المتغيرة، مهنة الواقف فى طابور العيش ذلك الطابور الذى يمتد طويلا أمام الأفراد للحصول على الرغيف المدعوم وهو قليل ونادر. وقد وجد بعض الشباب والأطفال فى طابور العيش مصدرا للرزق، إذ يسعى إلى تدبير رأس مال لا يزيد على ثلاث جنيهات، فيقف فى الطابور ليشترى خمسين أو ستين رغيفا ويتنحى جانبا ليقوم ببيعهم لرجل أو امرأة لا تسمح ظروفهم بالوقوف فى الطابور الطويل مقابل قرش أو أكثر زيادة فى سعر كل رغيف، ويعاود الوقوف فى الطابور لشراء الخبز وبيعه من جديد وفى المساء يكون قد تجمع لديه من المال ما يفى بضرورياته.
وفى العاصمة وأمام المصالح الحكومية التى تكثر بها النساء العاملات المثقلات بالواجبات المنزلية، وعلى رأسها طهو الطعام، تكثر بائعات الخضار الذى تم تجهيزه للطهى. فبإمكان السيدة العاملة أن تشترى أكياس الخضار المجهز بمختلف أنواعه وأكياس الباذنجان والكوسة التى أعدت للحشو. وقل مثل ذلك فى أسواق السمك حيث يقبع خلف كل بائع من يملك ساطورا وقرمة وبعض السكاكين ليقوم بتنظيف السمك وتقطيعه.
ولقد أصبحت بعض المصالح الحكومية سوقا موازية للسوق الرسمية وعلاقات الزمالة بين الموظفين تقطع نصف المسافة بين البيع والمكسب، فنجد موظفا أو موظفة يبيع لزملائه سلعا بالنقض أو التقسيط من الملابس إلى المصنوعات الجلدية والعطور والساعات. وأعرف أحدهم وهو يحمل شنطة سامسونايت كبيرة نسبيا يخرج منها كالحاوى أى شىء يطلبه زميل أو زميله: جوارب، كرافتات، ساعة، ولاعة، قميص نوم، وكان يبيع أيضا ما أعدته له زوجته من ساندوتشات البيض والجبن الرومى ليستبدل بهم الفول والطعمية ويربح الفرق بين السعرين.. هذه بعض إبداعات المصريين فى التحايل على الفقر وشظف العيش، نعم قد يكون أكل العيش مر، ولكن الذى أمر منه هو الفقر وذل السؤال.