لماذا كان المصريون «فى السابق» شعبا طيبا مهذبا حساسا، بل لعلنى أقول فنانا، يعرف الأصول ويفهم المجاملة ويحرص عليها ويبتعد عن العنف، ويسعى فى اختياره للأمور إلى الأجمل والأسهل والأبسط، يتحين الفرص والمناسبات سواء كانت دينية كالأعياد والموالد أو اجتماعية كمناسبات الزواج والسبوع والطهور، أو حتى احتفالات شخصية لإسعاد نفسه وإدخال البهجة على الأصدقاء والأهل والأقارب والجيران.
طبعا وفى البداية أرجو ألا يتصور أحد أننى، ولحنين رومانتيكى للماضى يشعر به أغلبنا، أرى أن المصريين كانوا ملائكة أطهارا والآن صاروا شياطين أشرارا، فهذا لا يتفق مطلقا مع أصول البحث والعلم، وإنما أنا أتناول بعض الظواهر الاجتماعية فى سماتها الغالبة، وبعد هذا الشرط، أعود للمصريين فى السابق
ومن هنا جاء التعبير العميق: «اللى بنى مصر كان فى الأصل حلوانى» طبعا لا يقصد صانع الحلويات وإنما يعنى أن المصريين دائما ما يختارون الحلو من الألوان والملابس والمصنوعات، والحلو من الألفاظ والتعبيرات، والحلو من السلوك والحلو من مختلف أنواع التعامل.
وأذكر أننى وقد عشت فى بلدتنا ــ الباجور منوفية ــ حتى بلغت أربعة عشر عاما من العمر، شاهدت فيها عشرات المشكلات والخناقات، التى تنشأ لأسباب طبيعية كالدور فى سقى الأرض مثلا، أو الاختلاف على شروط للزواج أو للطلاق أو غيرها، غير أنى لم أشاهد فى حياتى دما يسيل فى إحدى تلك الخناقات أو كراهية تنفجر أو حقدا يتأجج، بل رجالا طوالا عراضا ذوى شوارب يقف الصقر عليها، ترتفع أصواتهم بلا بذاءة أو فحش أو طعن فى الشرف أو الكرامة، ولعلنى أذكر فى إحدى تلك الخناقات أحدهم وقد انتفض واقفا وعيناه يقدح منهما الشرر، مادا سبابته فى وجه خصمه قائلا: «انت راجل مش كويس!!» فينتصب الآخر فى مواجهته غاضبا ومادا سبابته أيضا: «ماتقولش مش كويس!! انت اللى ستين مش كويس!!».
وفجأة يكبرون لمحترم يهتف بهم: يا جماعة وحدوا الله، أو صلوا على النبى. أو لكبير يردعهم قائلا: «اختشى يا جدع أنت وهو بلا مسخرة وقلة احترام». وفى المساء تكون تلك الخناقة موضوعا للسخرية والتندر والضحك بين المتخانقين أنفسهم.
ويبدو أنه لتقاليد تعود لزمن الفراعنة تؤمن بأن للأسماء سحرا يجعلها توجد وتتحقق بمجرد النطق بها، اختار المصريون أن يطلقوا ألفاظ المناسبات السعيدة كما هى، أما المناسبات المؤلمة فإنهم يخففونها إلى أقصى حد أو يرمزون لها بألفاظ تعطى العكس منها، فإذا كان فلان مريضا فهو «بعافية حبة» أو «بعافية حبتين»، ولا ينسى المتحدث أو المتحدثة أن تدعو لنجاة المستمعين بالقول: «بعيد عنكم» أو «بعيد عن السامعين» أو «الشر بره وبعيد»
كما شاعت كلمة «بالإذن» أو «دستور» أو «دستوركم» تعنى الرجا والسماح فى القيام بفعل حتى ولو كان شديد المشروعية.
وقد يضطر أصحاب فرح أن يؤجلوا فرحهم لأن هناك مناسبة موت فى بيت فى نفس الشارع، فإذا لم يمكن، يكون لزاما عليهم طلب الإذن من أهل الميت، فيرد أهل الميت قائلين: «اتفضلوا، الميت ميتنا، والفرح فرحنا».
وكان المصريين يتحرجون من أن يسألوا الناس عن عقائدهم أو دخائل نفوسهم، مكتفين بالمثل القائل: «أصلك فعلك».. فعرفت القرى المصرية فى ريف الدلتا ونجوع الصعيد، عشرات الخواجات من مختلف أصقاع الأرض يعملون فى تجارة الأقمشة والألبان والأجبان والخمور بل وبعض المرابين، ومع ذلك عاشوا بيننا فى ود وانسجام وتبادل للاحترام والمجاملات.
وقد اخترع المصرى تعبيرا أراه تعبيرا عبقريا، إنه اللفظ «لا مؤاخذة»، والذى يطلب فيه من الحاضرين أو السامعين التجاوز والتسامح عن ما يراه سلوكا لا يليق أن يسلكه أو لفظا لا يليق أن ينطق به، وهكذا راحت ألسن المصريين تردد لفظة لا مؤاخذة عشرات المرات، فيقول: لا مؤاخذة إذا عطس أو كح، أو إذا خرج فجأة أو إذا جلس فجأة، أو إذا تحدث فجأة أو إذا توقف عن الحديث أو إذا قاطع متحدثا، أو إذا اضطر للإشارة إلى أسماء الحيوانات أو أسماء بعض الناس أو المهن البطالة، أو خشية أن يتصور سامع أن الحديث يقترب من شخصه، أو إذا ارتفع صوته وأزعج جالسا، أو حتى إذا سأل سؤالا مشروعا عن مكان أو شارع.
هل هذه السلوكيات والتعبيرات قد انتهت وولى زمانها؟ أخشى أن أقول نعم وللأبد، وانظر إلى الصراع حول السير فى الشوارع وما يكتنفه من تجاوز وألفاظ بذيئة بين سائقى المركبات، سواء كانت مركبات عامة أو خاصة تقودها امرأة أو يقودها رجل لا فرق.
وقد اختفت كلمة لا مؤاخذة أو كادت من على ألسن المصريين مهما كان لون وحجم التجاوز، وانظر إلى أحدهم وهو يقتحمنى وبلا مقدمات سائلا: الأخ مسلم؟ فإذا أجبت: نعم والحمد لله، فيعود ليبادرنى: إذن لم تصل معنا؟ أو لماذا تلبس خاتم زواج من الذهب؟ أو لماذا بناتك وزوجتك من غير المحجبات؟
أو يزغدنى فى كتفى الراكب خلفى فى أحد المركبات العامة مادا يده بجنيهين قائلا: واحد هرم واتنين جيزة، وحدث ولا حرج عن شرائط الكاسيت التى تمتلئ فحشا وبذاءة وانحطاطا فى الميكروباصات العامة، أو سيارات الأجرة وأصواتها المزعجة، والويل لمن يطلب من السائق إغلاق الكاسيت أو حتى خفض صوته القبيح.
أو يسألنى احدهم ــ بدون لا مؤاخذة طبعا: بيدفعولك كام فى المقال؟ أو بتاخد كام فى المحاضرة؟
وأصبح السؤال عن عقيدة الشخص أمرا عاديا فينظر سائق التاكسى شذرا لراكبة غير محجبة ــ يأكل عيشه منها ــ ويسألها إذا كانت مسلمة؟ فإذا أجابت: نعم، فبالتأكيد ستأخذ درسا حول الحجاب ووجوبه دينيا.
وانظر إلى آلاف النماذج من ألوان الفحش فى التعبير لا بين العامة فحسب بل بين المسئولين والفنانين والسياسيين وقادة الرأى والفكر. وانظر إلى الفحش أيضا فى أغنيات كان من المفترض أن وظيفتها ترقية الشعور والسمو بالذوق وإثراء الوجدان. وأذكر ونحن صغارا ونشاهد فيلم لعبة الست للعبقرى نجيب الريحانى وتحية كاريوكا، إن اقتضت الدراما أن يغنى عزيز عثمان بمناسبة زواج محبوبته من غريمه أغنية «بطلوا ده واسمعوا ده.. الغراب يا وقعة سودة جوزوه أحلى يمامة..وفيها أيضا ألفاظ: الصدادة اللمامة..جنانه..تعويجة سنانه» كانت تحمر وجوهنا خجلا، وخصوصا إذا كان يشاهد معنا الفيلم بعض الكبار، على الرغم من أن الأغنية لها مبرراتها الدرامية فى قصة الفيلم. أما اليوم فتنتشر أغنيات «كوز المحبة اللى اتخرم» أو «ياللى وسطك وصت كمنجة وعودك مرسوم ع السنجة» أو يغنى قبيح الوجه والصوت «اركب الحنطور واتحنطر» وهو يرقص بتخثر وتخنث لا يليق برجل أو امرأة، أو يغنى احدهم «ياعيلة واطية وكدابة..هاتوا الفلوس اللى عليكم».
كل هذا الغناء الفاحش والبذىء استبدله المصريون اليوم بروائع أم كلثوم وعبدالوهاب وفريد ومحمد فوزى وعبدالحليم ومحمد قنديل ومحمد عبدالمطلب وكارم محمود وعباس البليدى ومحمد حمام وسعاد محمد ونجاة وصباح وشادية ووردة وليلى مراد، وعشرات العشرات غيرهم...
وانظر إلى حجم المعاكسات الفظة والتحرش الجنسى الذى تتعرض له بناتنا ونساؤنا اليوم، وهو يجد من يدافع عنه منطلقا من أن اللحم المكشوف يعف عليه الذباب.
وانظر إلى جرائم القتل التى تحدث لأتفه الأسباب وأصبحت تطال الأزواج والأقارب والأطفال، وما أصبح يكتنفها من عنف وتشفى وتمثيل وتقطيع لملامح ووجوه كان من المفترض أن تكون محلا للمسات الود وقبلات الحنان.