توطين التنمية (5) - محمود محي الدين - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 10:12 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

توطين التنمية (5)

نشر فى : الأربعاء 4 أكتوبر 2023 - 10:45 م | آخر تحديث : الأربعاء 4 أكتوبر 2023 - 10:45 م

يشغل القطاع غير الرسمى حيزا مهما من اهتمام صانعى القرار ومتابعى شئون التنمية فى البلدان النامية. وتعددت الآراء فى اتجاهات متضاربة بشأن دور هذا القطاع، منها المحبذ لاستمراره كصمام أمان داعم للاقتصاد ولتخفيف حدة البطالة، ومنها المنادى باحتوائه وضمه للقطاع الرسمى، لما فى ذلك من إضافة لموارد الموازنة العامة الدولية وإظهار الاقتصاد والناتج المحلى الإجمالى بأرقام تعكس كل الأنشطة الجارية على أرض الدولة المعنية.


وقد صدر أخيرا عن البنك الدولى دراسة عن القطاع غير الرسمى والنمو بالتركيز على دول شمال أفريقيا، وكيفية تأثير السياسات وعمل المؤسسات والقوانين المتبعة لبدء المشروعات، والقيام بالإنتاج واتخاذ قرارات الاستثمار والتمويل والعمل. وكان من نتائجها التى اعتمدت على مسوح إحصائية لأسواق العمل فى تونس ومصر والمغرب ارتفاع نسب العاملين فى هذه البلدان، لتصل إلى 44 فى المائة و63 فى المائة و77 فى المائة على الترتيب. وحددت الدراسة ثلاثة مجالات لإجراءات الإصلاح وتنسيق السياسات العامة؛ وهى:


1ــ العلاقة بين أصحاب الأعمال والعاملين وما يحكمها من نظم التأمين والضمان الاجتماعى، وقواعد سوق العمل، والحد الأدنى للأجور، وفاعلية نظم التنظيم والرقابة.
2ــ نظم الضرائب والتحويلات بما تشمله من قوانين للضرائب على الدخل والأرباح والاستهلاك والمبيعات، والمؤسسات القائمة على التحصيل وفاعليتها.
3ــ ظروف السوق بما تتضمنه من حماية العقود وفاعلية مؤسسات الائتمان والتمويل، ومدى تيسير إجراءات تسجيل المنشآت وتكلفتها وقوانين المنافسة ومنع الاحتكار.

ورصدت الدراسة اقتراحات للتنسيق الشامل للسياسات العامة وتوفير تأمين مناسب ضد المخاطر، على أن يمول هذا التأمين عند تغطيته لكل السكان من مصادر ضريبية، ويمول التأمين ضد مخاطر العمل من اشتراكات العاملين، كما يمول تأمين إضافى للعاملين فى الشركات من جهات عملهم وفقا لمستويات أجورهم. كما أشارت إلى أهمية تقديم ضمان اجتماعى للفقراء وفقا لمعايير المساندة الاجتماعية للتعامل مع التقلبات والصدمات. يتطلب هذا إعادة تنظيم السياسات الضريبية ومؤسساتها لتحفيز التشغيل فى القطاع الرسمى مع إجراء تعديلات مساندة فى نظم الضمان الاجتماعى. وجنبا إلى جنب مع هذه السياسات، دعت إلى تطوير قواعد العمل فى السوق وتيسير إجراءاته؛ بما فى ذلك استخدام الرقمنة مع الارتقاء بنظم الحوكمة والمنافسة العادلة.
وأثناء مشاركتى لمناقشة هذه الدراسة مع اثنين من مؤلفيها؛ هما جلاديس لوبيز أكيفيدو ونيشتا سينها، ومشاركة نادر محمد المدير الإقليمى بالبنك الدولى، وكريم العيناوى رئيس مركز السياسات من أجل الجنوب الجديد؛ تناولت عدة نقاط ألخص بعضها فيما يأتى:
إنه لا يمكن النظر لتطورات الاقتصاد غير الرسمى فى البلدان النامية بمعزل عن أداء اقتصاداتها عموما، بعد تعرضها لصدمات ومربكات وسوء إدارة بعضها للأزمات سببت تراجعا فى مدى تحقيقها لأهداف التنمية المستدامة، خصوصا فيما يتعلق بمكافحة الفقر المدقع والبطالة والعدالة فى توزيع الدخل والثروة؛ مع تدنٍ لمؤشرات التنمية البشرية وانخفاض معدل النمو الحقيقى فى متوسطات الدخول خصوصا مع ارتفاع معدلات التضخم وانخفاض الإنتاجية.
إن الانتقال السريع من الريف، والمناطق البدوية أيضا، إلى الحضر من شأنه أن يبرز تحديا فى افتراضات تقليدية حول دور الأسرة الممتدة فى مساندة أعضائها، خصوصا فى أوقات العسر والحاجة، كما يغير من شكل وطبيعة السوق غير الرسمية للعمل بما فى ذلك بالنسبة لمشاركة المرأة.
إن الآثار المبدئية للتحول الرقمى والذكاء الاصطناعى لم يتم استيعابها بعد على سوق العمل الرسمية، وكذلك على الأسواق الموازية وغير الرسمية، بما فى ذلك العمل غير المنظم والمتقطع مع تطور ظاهرة العاملين الرحل فى العصر الرقمى.
إن القطاع غير الرسمى، أثناء تقلب الدورات الاقتصادية أظهر سلوكا غير معتاد فى أزمات سابقة، حيث لم يظهر القطاع غير الرسمى إمكانية لاستيعاب الآثار السلبية للجائحة؛ فقد أكدت دراسة لأوليفييه بيزمانا وشانت أرزومانيان الخبيرين فى صندوق النقد الدولى عن القطاع غير الرسمى والدورات الاقتصادية، أن العمالة غير الرسمية تراجعت بشدة إبان الجائحة فى عام 2020. بما يعنى أن سوق العمل لم تلعب دور صمام الأمان فى استيعاب العمالة المستغنى عنها من القطاع الرسمى.
إن المشروع الضخم للأمم المتحدة لمراجعة الناتج المحلى الإجمالى كمؤشر للأداء الاقتصادى والتنموى، ستكون له انعكاسات على كيفية إدراج بعض أنشطة القطاع غير الرسمى ومساهمة المرأة فى الاقتصاد، بالإضافة إلى اعتبارات مهمة أخرى لقياس أداء اقتصاد الدولة المعنية. فالناتج المحلى كمؤشر من حيث التصميم والهدف منه له مزايا نسبية محددة وقصور فى أوجه أخرى لم يصمم لها، ولاستيعاب مدى التطور أو الإخفاق فى تحقيق أهداف التنمية المستدامة، بما فى ذلك رأس المال الاجتماعى والتغيرات البيئية ورأس المال الطبيعى، ومحددات النمو الشامل للكافة. وهناك حاجة لمراجعة المنهجية المتبعة فى هذا المؤشر تحديدا، فضلا عن ضم مؤشرات حيوية كأنها لوحة مفاتيح لسيارة يستعين بها قائدها، وهو ما ينبغى أن يكون متاحا لصناع السياسات العامة ويستأنس بها عموم الناس فى تفقد أحوال الاقتصاد والتنمية.
ولعل تجربة الدول الأسبق فى التقدم الاقتصادى تمنح درسا مفيدا لمعضلة التعامل مع القطاع غير الرسمى؛ هل يترك لتصاريف تطورات الاقتصاد والمجتمع بمرور الزمن؟ أم تكون الحكومات له بالمرصاد تضييقا عليه أو ضمه عنوة للقطاع الرسمى؟ فمن أكثر الدول المتقدمة احتفاء فى الحضر برسمية ونظامية نشاطها الاقتصادى، كانت مرتعا فى الماضى لأنشطة اقتصادية غير رسمية بأنواعها المختلفة ولم يتبدل الحال إلى واقعها اليوم إلا بعدما أصبح قطاعها الرسمى رسميا حقا من حيث الكفاءة وانخفاض تكلفة الإجراءات وارتفاع مزايا الاندراج فيه. فما ألجأ الناس إلى البديل غير الرسمى فى أسواق العمل والتجارة والائتمان إلا سوء ما يطلق عليه تجاوزا اسم القطاع الرسمى فى كثير من البلدان النامية.

التعليقات