كان هو يسكن فى طبقات الوعى والعقل، يبقى متربصا هناك ويرفع العصا الغليظة أو الصور الداكنة كلما شطح التفكير بعيدا أو حاولت أنت أو من حولك الخروج عن تلك الدائرة الضيقة التى رسمت بدقه لتحدد لكم جميعا الفضاء المغلق للتفكير.. وكان هو أيضا يختبئ فى أزقة المطابع عندما كانت هى أكبر سلاح حرب فى وجه الجهل والانغلاق قبل أن تتحول التلفزيونات ثم الإنترنت لتصبح هى الجيش الثانى لكل نظام أو حكومة.. ينفض الكلمات ليرى ما تحتها وما فوق حروفها، يدقق النظر فى العناوين يبحث عن النيات خلفها أو ما يمكن أن يكون القصد وإذا عجز لكثرة غبائه وقلة معرفته فالحل الأمثل والأكثر أمانا بالنسبة له هو أن يشطبها كلها أو يحذف منها أجزاء فيكون مخلوقا مشوها كما هى نفسياتهم هم..
***
هو لا يستكين، فهذا دوره فى الحياة أن ينبش خلف النفوس أو فى باطنها، أن يتابع دقات قلبك ونظرات عينيك، أليست العين مغرفة الكلام؟؟ يضع خارطة للتحركات ليست الجسدية فقط بل الذهنية التى تنتج عن كثير من القراءة أو النقاش مع من يشبهونك أو يختلفون عنك ولكن لديهم القدرة على أن يدخلوا فى نقاش دون شتائم أو اتهامات بالخيانة العظمى.. يجلس خلف أضلع صدرك ليعد عليك كل نفس، أما مزاجك العام فهو بالنسبة له أكبر دليل على إدانتك..
***
هو كان واحدا أو أكثر ممن يخدمون جهازا أو أجهزة، وهو على الرغم من تخفيه أو محاولاته للتخفى فإنه يبقى الأكثر وضوحا لهم جميعا، لمحترفى الكلمة ومحبى الفضاء المفتوح.. لصائدى الأفكار القادمة مع رياح منعشة، مع نسيم ذاك الخليج الهادئ غير الملوث.. لا تصل النسمة إلى الشاطئ حتى يصطادها بسنارته الحادة يضعها ضمن قائمة الاتهامات الطويلة التى تقدم لتلك الأجهزة المختصة فى عد أنفاس العباد وحساب خطواتهم وتحركاتهم بل وظلهم.. كان هو يستحق بجدارة وصف «صائد الأفكار» أو سجانها لا يخفى أنه لا يطيق بعضها بل هى تسبب له كثير من الحساسية المفرطة مثل تلك الكلمات.. الحرية، الكرامة، الديمقراطية، المساواة.. ووو.
***
يردد من أين جاءوا بها؟؟ هذه الأخرى دخيلة علينا، على مجتمعنا وعلى ثقافتنا العربية أو الإسلامية.. هكذا هو وزملاؤه من العسس أو العساسين وهو على الرغم من تعريفه لدى معجم المعانى الجامع بأنه من «يقضى الليل عساسا مراقبا طائفا بالليل يكشف عن أهل الريبة واللصوص» إلا أن العساس الذى كان، ترك اللصوص يمرحون فى شوارع المدينة وبيوتاتها وسلط جل قدراته على العقول المتمردة..
***
اختفى ذاك مع التطورات الحديثة، وأصبحوا كل المراقبين عاطلين عن العمل.. بعضهم تحول ليكون رقيب صغير يقف على الأرصفة أو يجلس ليشرب أكواب من الشاى والقهوة حاملا جريدة فيما أذنيه تلتقط كل الاحاديث ليسجل أى كلمة خارجة عن تلك الدائرة الضيقه أو خلف الخطوط الحمراء..
***
وفيما اختفوا هم الرقباء الأغبياء كما كانوا يعرفونهم، حل مكانهم ملايين يسكنون العقول مباشرة دون وسيط يلغون الكلمة قبل أن تصل إلى شاشة الكمبيوتر أو تتحول إلى حركة باليد ترسم صور مغايرة لما هو مقبول أو متبع.. ارتاحت الأجهزة عندما انتصرت فى أن تتخلى عن ذاك الجهاز المتضخم وأن توفر عليها الجهد والتعب وتترك كل مواطن يراقب نفسه على نمط «راقب نفسك بنفسك»!!!
***
مع كل التطورات الفكرية والسياسية والجرأة فى كسر تلك الحلقة، كان الحل الوحيد أن تخلق مجتمع يراقب أبنائه ليكسرهم ويرعبهم ويخوفهم ويخونهم أيضا ويطالب بشنقهم وحرق كتبهم كما كان فى تلك العصور المظلمة.. تحول الرقيب إلى مجتمع متكامل يراقب ضميرك ويردد أنك تناصر هذا أو ذاك «باين من وشك» من عينيك أو حركة جسدك المضطربه كلما طالت الشتائم لمن يختلفون عنهم فى الرأى.. وانتشر الجهل ليساهم فى تلك الحملة على كل من تسول له نفسه أو يختلف فى الرأى أو الموقف هو أو هى يصبحوا مثل ذاك الفيلم الشهير لذاك العالم فى تلك القرية الصغيرة عندما قال لهم أن الماء ملوث وأنهم جميعا مصيرهم إلى الهلاك فحاصروا بيته وضربوه هو وزوجته وأبنائه بالحجارة وطردوهم من حضن القرية أو القبيلة.. رحل هو وما كان إلا أن ماتوا هم.. جميعا.. لأنهم فقط مارسوا الرقابة الجماعية وتحولوا إلى أجهزة مخابرات ضحلة متحجرة فى زمن أصبح من الصعب أن تضع الكلمة فى الزنزانة وتقفل عليها بالأقفال الحديدية.. فهى تنتقل مع النسمة وتتسلل عبر الحمامة الجالسة عند حافة شرفتك أو حتى مع سرب الطيور القادم من أراض بعيدة يغنى ويرقص للحياة فيما هم لا يعرفون إلا أغانى الموت..
***
استطاعوا هم أيضا أن يخلقوا عسس فى عقل كل بنى آدم، زرعوا الرقيب فى أذهان البشر.