ودع الشعب الأرجنتينى فى ليلة العاشر من ديسمبر الماضى رئيسة الجمهورية كريستينا فيرناندز كيرشنر بعد قضاء فترتين رئاستين امتدتا لثمانى سنوات خلال الفترة ٢٠٠٧ ــ ٢٠١٥، وقد ودعها عشرات الألوف بالمظاهرات الصاخبة وبالبكاء والدموع. وتلك ظاهرة فريدة أن يتم توديع حاكم من دول العالم الثالث حديثة العهد بالديمقراطية بهذا القدر من الحب والتقدير بدلا من أن يشيعونه باللعنات!
وكريستينا فيرناندز هى محامية انخرطت فى الحركة البيرونية (نسبة إلى خوان بيرون) منذ السابعة عشرة من عمرها، ثم انتخبت فى البرلمان عام ١٩٨٩ ولم يتجاوز سنها ٣٦ عاما، وذلك بعد بضع سنوات من بداية الانتقال الديمقراطى فى الأرجنتين. ولأن الدستور الأرجنتينى ينص على أن فترة الرئاسة لا تتجاوز مدتين كان لزاما عليها ألا تترشح لانتخابات الرئاسة مرة أخرى.
* * *
وقد ناضلت كريستينا فيرناندز فى صفوف الشبيبة البيرونية ذات الطبع اليسارى أيام كانت طالبة فى الجامعة. ومن المفارقات الغريبة أنها تولت الحكم عقب رئاسة زوجها القيادى البيرونى نستور كيرشنر الذى تعرفت عليه أثناء دراستها الجامعية. وقد واجهت فترة رئاسة نستور كيرشنر ظروفا بالغة الصعوبة حيث كانت الأرجنتين على حافة الإفلاس نتيجة الأزمة الاقتصادية الحادة التى ضربت الأرجنتين عام ٢٠٠١، واتبع سياسات كينزية لمواجهة الأزمة الاقتصادية من خلال التركيز على مشروعات البنية التحتية لتحقيق أكبر قدر من فرص التشغيل والعمل على استعادة الأرجنتين قدرا من كبريائها المفقود.
وخلال فترة الاثنى عشر عاما لرئاسة كل من نستور كيرشنر وكريستينا فيرناندز (٢٠٠٣ــ ٢٠١٥) نجحت الأرجنتين فى إعادة التفاوض حول الديون المتراكمة على عاتق الاقتصاد الأرجنتينى وسداد معظمها. وكان هذا إنجازا كبيرا بكل المقاييس.
وعلى الصعيد الداخلى، تم تطبيق حزمة كبيرة من السياسات الاقتصادية والاجتماعية تمثلت فى: إصلاح نظام المعاشات والتقاعد، وتأميم شركة الطيران الوطنية، وشركة البترول الوطنية. واتبعت تلك الخطوة موجة من التأميمات امتدت لفروع شركات أمريكية عاملة بالأرجنتين كفرع عملاق صناعة الطائرات الحربية لوكهيد مارتن، إضافة إلى العديد من الشركات التى خُصخصت فى عهد الحكومات اليمينية السابقة.
* * *
كذلك احتل موضوع العدالة الاجتماعية موقعا مركزيا فى منظومة السياسات الجديدة تمثلت فى خفض فاتورة الطاقة وذلك عبر برنامج نووى طموح بالمشاركة مع البرازيل مع التوسع فى الاعتماد على الطاقات المتجددة. وتشير بعض التقديرات إلى أن تلك السياسات أدت إلى إخراج نحو مليونى أرجنتينى من مصيدة الفقر ليصبح مستوى الذين هم تحت خط الفقر نحو ١٥٪ من السكان.
ولم تكن المعارك لتحقيق العدالة الاجتماعية سهلة، فقد خاضت كريستينا فيرناندز معارك مهمة مع البنك الدولى وصندوق النقد الدولى من أجل إعادة هيكلة ديون الأرجنتين دون الخضوع للمشروطية التى تطلبها تلك المنظمات لإجراء إصلاحات اقتصادية محددة، وقد وصفت كريستينا فيرناندز تلك الضغوط التى تمارسها تلك المنظمات بأنها نوع من «الإرهاب الاقتصادى». كذلك فى مجال إصلاح نظام المعاشات، خاضت رئيسة الجمهورية معارك ضارية مع رجال الأعمال الذين يسيطرون على صناديق التقاعد ويضاربون بها فى البورصات العالمية وتمكنت من فرض سيطرة الحكومة على تلك الصناديق، وبالتالى أصبح نظام المعاشات أكثر استقرارا وأمنا.
* * *
وعلى صعيد السياسة الخارجية، نجحت الرئاسة ما بين عامى ٢٠٠٤ ــ ٢٠١٥ فى الخروج من التبعية للولايات المتحدة وذلك بالتنسيق مع القيادات الجديدة لليسار الأمريكى ــ اللاتينى فى البرازيل (فى ظل رئاسة لولا دى سيلفا) وفى فنزويلا (فى ظل رئاسة شافيز) وفى بوليفيا (فى ظل قيادة موراليس). كما قامت الأرجنتين بالانفتاح على إيران رغم الحصار المفروض عليها، كذلك قامت باتخاذ موقف صريح وصارم تجاه القضية الفلسطينية.
وقد خاضت كريستينا فيرناندز وأنصارها معركة عنيفة مع الإعلام الذى ناصبها العداء وقامت بإقرار قانون جديد للإعلام السمعى والبصرى، وهو قانون يمنح الأولوية للإنتاجات المحلية، وذلك بهدف الحد من خطر العولمة، كما فرض القانون حصصا للأقليات الثقافية والعرقية فى الأرجنتين.
ورغم كل هذه الإنجازات ظلت المشكلة التى تواجه الاقتصاد الأرجنتينى هى ارتفاع نسبة التضخم السنوى إلى نحو ٣٠٪، ونقص حصيلة النقد الأجنبى التى أدت إلى فرض قيود على حركة رءوس الأموال وعلى تحويلات العملة مما أدى إلى تذمر كبير فى أوساط رجال الاعمال، وكذلك الشرائح الأكثر ثراء فى المجتمع الأرجنتينى، هذا بالإضافة إلى أن برنامج مكافحة الفساد الذى أطلقته الرئيسة نال بعض المقربين منها.
وإذا كان هناك من يقول إذا كان لها كل هذه الشعبية الجارفة، لماذا فاز فى الانتخابات الرئاسية الأخيرة مرشح اليمين مقابل مرشح الحركة البيرونية الذى تؤيده الرئيسة السابقة، فالعبرة هنا أن الشخص المرشح يجب أن يمتلك مقومات الزعامة، وكذلك تلعب الكاريزما الشخصية دورا مهما فى الاختيار بالإضافة إلى العداء السافر للإعلام المحلى ودوائر رجال المال والأعمال وعداء الولايات المتحدة لتجربة الاثنتى عشرة سنة الأخيرة.
ولعل تداول السلطة يعتبر نعمة من نعم الديمقراطية بشرط عدم المساس بالمكاسب الاجتماعية والسياسية للطبقات الشعبية.
* * *
وإذا تأملنا فى الأمر جليا نجد أن الحلول السياسية والاقتصادية للفترة الراديكالية للرئاسة الأرجنتينية خلال الانثى عشر عاما الماضية تكاد تطابق الشعارات والطموحات التى عبر عنها الشعب المصرى خلال ثورة ٢٥ يناير التى احتفلنا بمرور خمسة أعوام على قيامها ومازال أمامها مخاض طويل لكى تحقق أهدافها. ولعل التجربة الأرجنتينية تشير بوضوح إلى أن من أهم شروط النجاح توافر حركة شعبية منظمة وقيادة سياسية مدربة قادرة على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية. وقديما قال أمير الشاعر أحمد شوقى:
«وما استعصى على قوم منال... إذا الإقدام كان لهم ركابا»