ينعصر قلبك، تغمض عينيك وتحاول أن لا تتابع المشهد، وهناك عند تلك اللحظة المعتمة تعود الصور لتتساقط من أرشيف الذاكرة الذى تصورت أنت تحديدا بأنه قد محى بشكل تدريجى.. تعود الصور.. بشر هم؛ رجال ونساء وأطفال، شيوخ وشباب.. كتل بشرية تتحرك باتجاه الطائرات المحلقة بعيدا. بالنسبة لهم هنا الموت وهناك الحياة.
•••
تعيدك الصور المتساقطة سريعا إلى سنين بعيدة عند خروج نفس الجيش من فيتنام والكثيرون يلاحقون الطائرات علها ترفق بحالهم وتأخذهم مع المحظوظين من أولئك البشر.
•••
كم كنا نتصور أنها المرة الأخيرة، وأن الدرس القاسى قد يعلم أكثر المستعمرين ذكاء وقوة، ولكن تعود مشاهد البشر الباحثة عن قبضة فى ذيل الطائرة أو حتى فوق عجلاتها.. أجسادٌ تُرمى بعيدا جثثا مقطعة.. مشاهد تبدو وكأنها من أفلام الرعب الهوليوودية. نفس المشهد يتكرر مع فوارق فى المظهر والشكل والمدينة.. نفس الوجوه الشاحبة والعيون المليئة بالخوف أو الدمع الدامى.. هى نفسها تتكرر. مدينة أخرى هى، يُترك سكانُها لمصيرهم بعد سنين من الوعود بالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان وتعليم المرأة والمساواة وغيرها من الشعارات التى كانت جميلة وتحولت إلى مجرد سلعة فى سلال المانحين والجمعيات الأهلية العالمية منها والمحلية.. والأهم أنهم يستمرون فى تسويق نفس السلعة البائتة، ويتبجحون بكم ما صُرف من أموال لتمكين المرأة ومنحها فرصتها فى المشاركة والحياة الكريمة.. نعم الحياة الكريمة وهى الآن تختبئ خوفا على حياتها، هى تبحث عن مخبأ حتى لا تتحول إلى سبية أو جثة تنهشها الكلاب البشرية مرتدية شعارات الدين مرة وشعارات الشرف مرات!
•••
أكثر ما يؤلم فى المشهد هو تكراره فى مدن بأسماء مختلفة وشخوص بأشكال مختلفة أيضا، ولكن السيناريو هو نفسه وكأنه فيلم يعاد إنتاجه من الأبيض والأسود إلى الألوان!
•••
تُقرر أنك لن تشاهد، ولن تسمع، ولن تناقش، ألم تعتد على اللات الثلاث وأخواتها؟ فتغلق كل ما يرسل أية إشارة ما أو صورة وتبعد بصرك، فمنذ فيتنام والجرح ينزف فى مدن وعواصم وأرياف ووجوه أتعبها البحث عن حياة فقط كما هى حيوات بقية البشر على هذه الأرض.. تنظر لهؤلاء فتعرف أن أحلامهم لا تبعد عن أحلام من هم مثلهم هنا أيضا.. سقف ومدرسة للأبناء ورغيف خبز أو طبق من الأرز وبعض الكرامة إن أمكن.. كم هى صغيرة أحلامهم وأحلامنا، كم هم يشبهون من سبقوهم ومن سيلحقون بهم.. مشاهد كابول ليست الأخيرة ربما وليست الأولى، هى فقط استفاقة من أحلام أن القادم فوق دبابة أو طائرة أسرع من الصوت يحمل مع دبابته بعضا من الديمقراطية والحرية والمساواة والعدالة ووو كلمات وقيم سامية كتبوها فى دساتيرهم وأوهموا العالم أنهم يدافعون عنها حتى لو كان ذاك فى آخر بقعة على وجه البسيط.. وهمٌ هو أم حلم؟! ربما لا فرق كبير بين الاثنين ولكن الأهم ليس درسا من قام فى صباح ذاك اليوم وحمل ما خف حمله وغلى ثمنه ورحل كل مواطنيه من الدرجة الأولى حتى الحيوانات التابعة لهم وترك كل أولئك الحالمين أو الواهمين بأنه كان «المخلص»!!
•••
ولم ينس طبعا كثيرٌ من توابعه من أبناء البلد نفسه، أى بشر درجة ثانية، ولكنهم قاموا بخدمات منها الترجمة وخدمة بشر الدرجة الأولى فاستحقوا أن ينقذوهم من براثن القادمين براياتهم السوداء حاملين المصاحف المقلوبة، المتدثرين تحت عباءة الدين مرة ومرات.. كل الأمور محسوبة حتى آخر قرش، فمواطنوهم، أى البشر حاملى الدرجة الأولى الممتازة، يعودون سالمين غانمين إلى أوطانهم ودفء أسرهم ورايات النصر التى تنتظرهم فى مدنهم البعيدة والصغيرة.. فيما يبقى البشر من ذوى الدرجة الثانية، أى المترجمين والتابعين وحملة الأختام والمروجين وحتى منهم الذين اعتلوا المناصب العليا، هؤلاء يرحلون إلى دول أخرى حيث تقوم تلك الدول بالتكفل بهم مقابل أنهم خدموا «أسياد» الأرض كلها.. كم هو مشهد يعصر القلب حتى آخر قطرة ويثير الغضب حد الاشمئزاز من تلك الهمجية المتدثرة بلحاف الحضارة والحرية.. كم محزن أن تكون حياة فرد منهم أهم من حياة ملايين منا.. والأكثر ألما أن كابول ليست الأخيرة!