قال لى بصوت ضعيف يبدو أننا كعائلة ستمحونا الكورونا وأكمل بعد تنهيدة عميقة وصوت مغمس بحزن لم أعهده منه «اكتبى، اكتبى خبرى العالم ما الذى تفعله الكورونا وأنت أكثر العارفين».. كان ردى بأننى كتبت كثيرا عن الجسد عندما ينخره الفيروس القادم مع كل نسمة.. قلت له: «كتبت عندما غزانى الفيروس»، فرد بشىء من الإصرار «اكتبى أيضا وأيضا».. ولكننى لم أستطع أن ألبى نداء ذاك الصديق وهو الذى اقتحمت الكورونا منزله وكل عائلته الصغيرة والكبيرة وأدخلت كثيرين منهم للمشافى فى عواصم مختلفة وآخرين رقدوا فى مقابرهم!
***
مطلوب أن تكتب وأنت تعلم أن الموت يطارد الكثيرين من الأحبة والأصدقاء وأصدقاء الأصدقاء وأحبة الأحبة.. مطلوب أن تكتب وأنت تعلم أن أيامنا قد غمست بالسواد منذ أكثر من عام وأن البشر، كل البشر، قد تعبوا من حكايات الموت المتنقل والمرض والحبسة فى البيوت بإرادة أو بغير إرادة.. تدرك أن دور من قرر أن يمتهن نقش الحرف هو أن لا يبعد كثيرا عن من يقرأ ذاك الحرف أيضا.
***
ولكنك تخشى أيضا أن تنجر لسلسلة الكآبة والدنيا تسعى للخروج من ذاك النفق المعتم.. وتتذكر كلام أساتذتك فى الصحافة أولئك الذين شكلوا مدارس فى المهنة لم يبقَ منها إلا بعض الشىء فيما تحولت المهنة إلى مساحة للردح والتضليل والتطبيل وأصبح الصحفيون والصحفيات والإعلاميون والإعلاميات يتنافسون على نشر النعرات القاتلة والولاءات الرخيصة.. علمنا بعض أساتذتنا بأن نكون نبض الناس أو صوتهم وأحيانا ضميرهم وعلمونا أن نبقى شعلة النور فى عتمة اللحظة وانطفاء الكلمة.
***
صوت أستاذك يطاردك «لا تكونى ورقة نعوة» خاصة وأن كل المساحات المفتوحة تحولت إلى نشرة لأخبار الموت حتى خفنا أن تسبق تلك الأخبار فنجان قهوتنا أحد المتع البسيطة المتبقية مع تغريدات البلابل فى شجرة بيت أبى.. أما ذاك الذى كانت نصائحه أن الكآبة أكثر عدوى من الفيروس فابتعدى عن من يحملها وينشرها واتركى لأحرفك مساحات لنور وفرح وضحكة لا يزال بعض منها عالقا بالذاكرة.
***
فى زحمة بطء اللحظة والأيام المكررة ونصائح البقاء فى البيت والحظر والمنع وانقطاع خيار السفر إلى سواحل تنتظر على مهل عشاق طال غيابهم ومريدين كثر اشتياقهم، فى تلك الزحمة تنبش ذاكرتك ولا حاجة للتوغل طويلا فقبل أقل من عامين كانت المشاهد فى مثل هذه الفترة من السنة والصيف يفتح أبواب سماواته بشموسها وأقمارها ونجومها، حينها كانت المشاهد الأكثر شيوعا هى لمطارات مزدحمة بالراحلين/ات والقادمين/ات ومحلات حقائب السفر الملونة ومصطافين/ات من أعلى الجبال إلى الوديان والشواطئ وعند ضفاف الأنهار يضحكون ويرقصون ويغنون محتفين بوقت الاغتسال من تعب شتاء وخريف و«حبسة المكاتب» المكتظة وهى الأخرى تحولت إلى فضاءات فارغة تنتظر العائدات/ين الذين طال غيابهم فى بيوتهم.. قبل أكثر من عامين كانت البيوت تبحث عن ساكنيها فى شهور الصيف الحارقة أما الآن فقد تحولت إلى مساحات للعمل والأكل والتعايش والبحث عن ما يجعل الزمن يمر بأقل الخسائر النفسية والجسدية وحتى فى العلاقات التى إما انهارت عند أول امتحان لساكنى تلك البيوت أو تحولت إلى سجون عند البعض أو حتى إلى فراغات ينخرها الاكتئاب والخوف والترقب لقادم مجهول بلا ملامح ولا تفاصيل.
***
بقى كلام صديقى يطاردنى وأصوات لأصدقاء وأحبة كلهم نالهم نصيبهم من غزوة الفيروس الفتاكة.. تتزاحم الكلمات وأقترب من النقر على الأحرف ثم أعود مترددة لأن صوت الأساتذة هو الآخر لا يسقط بتقادم الزمن بل ربما يقوى ويزداد حضورا كما هم وخاصة ذاك الذى رحل دون أن يمنحنى آخر حضن وضحكة ونظرة مليئة بالسخرية هى ربما سخرية من بعض ما أفكر أو ربما هى من الحياة.
***
لا مفر إلا أن نبقى بعضا من الضوء هنا وهناك حتى يرحل هو ومعه كل تلك العتمة القاتلة.