شهد العقد الأخير ظهور سردية جديدة عن التعليم، وتحديدا التعليم الجامعى مفادها أن معيار ما تخصصه الدولة من موارد لابد وأن يتم تحديده بناء على معيارين هما العوائد الاقتصادية للتعلم من الالتحاق بسوق العمل ومدى استفادة الفقراء من مجانيه هذا القطاع. واقترنت هذه السردية بروح أهداف الألفية للتنمية التى أكدت النمو الاقتصادى كمفتاح ضرورى لاستمرار حد أدنى من الانفاق الاجتماعى على التعليم والقضاء على الفقر كأحد أهم مساعى التنمية البشرية على مستوى العالم.
تزامن مع هذه الفرضية أفكار مكملة جاء معظمها من المؤسسات المالية الدولية التى روجت لأهمية تقليص التعيين فى الوظائف الحكومية وتوجيه الكتلة الأكبر من خريجى الثانوى والجامعة نحو مبادرات للمشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر، بل وبدأت بالفعل فى إنشاء هيئات تمويلية داعمة لهذا التوجه مثل الصندوق الاجتماعى لدعم هدفى التعليم الجديدين: الربط باحتياجات سوق العمل أو بشكل أكثر تحديدا الإعداد لحس المبادرة الاقتصادية وتخفيف نسب الفقر فى المجتمعات الوطنية.
هنا لابد من الإشارة أن ظهور هذا الاتجاه لم ينهِ صراحة ما سبقه من دلالة راسخة عن التعليم كحق مكفول لكل المواطنين وأحد مسئوليات الدولة فى بناء رأسمال إنسانى يقود مسيره التنمية ويدعمها. على العكس ــ ومثل كثير من القطاعات فى مصر ــ تعايش المعنيان فى سلام مذهل كان مؤداه أن الدولة وفرت على مضض الحد الأدنى من الموارد المتاحة لقطاع التعليم، مؤكدة داخليا أنه استكمال لأركان شرعيتها الاجتماعية، وبررت ذلك دوليا على أنه التزام بتنفيذ الأهداف الألفية التى تستهدف القضاء على الفقر والفقراء.
قبل الجميع: سلطة، وأحزاب وأساتذة وطلاب وعائلات هذا الواقع على انه الصيغة الوحيدة المتاحة فى ظل ندرة الموارد وضعف الإرادة السياسية، وبدأت الحلول التكميلية فى الظهور على استحياء. كان البدء فى تعداد الملتحقين بالتعليم العالى الفنى ضمن مصفوفة الملتحقين بالتعليم العالى لتقفز نسب الالتحاق فى الشريحة العمرية من حوالى ٢٠ إلى ٣١٪ أول هذه العلامات على الارتجال الناشئ فى التوفيق بين الخطابين المتعلقين بالتعليم: ذلك المتوجه للداخل والآخر المستهدف للمحافل الدولية. كما مثل تخصيص معظم مؤسسات التعليم الفنى العالى ثانى الخطوات فى تنميه «التوليفة المصرية للنهوض بالتعليم» والتى هدفت بالأساس إلى ادماج أعداد أكبر على الورق دون توفير فرص حقيقية للتعلم (أكثر من ٥٧٪ من المعاهد الفنية أصبحت خاصة)، زاد من ذلك ايضا ظهور أشكال عدة من التعليم الاستثمارى كالبرامج عالية المصروفات داخل الجامعات الحكومية تحت مسمى التعليم المتميز أو برامج اللغات أو التزايد السريع فى الجامعات الخاصة، وأخيرا التوسع فى بناء شراكات دولية للنهوض بالتعليم الثانوى الصناعى والتجارى باعتباره ملاذ المواطنين الأكثر فقرا. هكذا تم تدريجيا ترسيخ واقع جديد للسياسات التعليمية مفاده ترحيل الأزمات وتجاهل التردى فى مستويات التعلم وانسحاب الدولة التدريجى من الانفاق العام على التعليم (نصيب الطالب من الانفاق الحكومى لم يتغير على مدى العشر سنوات الأخيرة)، تم هذا كله تحت مسمى ترشيد السياسات وباسم دعم الفقراء الاولى بالرعاية فى مراحل التعليم الالزامى.
معضله التوجه السابق خصوصا بعد ثورة كان وقودها الشرائح الدنيا والوسطى والعليا من الطبقات الوسطى دفاعا عن حقوق المواطنة أنه يفرض على قطاع حيوى مثل التعليم منطق السلعة الخاصة مع كل ما يعنيه ذلك من أهمية توائم حجم الاستثمار مع عوائده الاقتصادية دون الالتفات أن مهام وأهداف التعليم عموما والجامعى خصوصا تتعدى هذا المنطق الاقتصادى الصرف وترتبط ارتباطا وثيقا بأدوار استراتيجية مثل دعم المواطنة وبناء كوادر من الأيدى العاملة المؤهلة والضرورية فى قطاعات إنتاجية بعينها والتأكيد على دور المؤسسات العامة فى تكوين المواطنين.
●●●
على هذه الخلفية، بدت التصريحات الأخيرة لوزير التعليم عن احتياج الفقراء لعدد مدارس أكبر ودعوة رجال الأعمال فى التشارك لبنائها كجزء من «مسئوليهم الاجتماعية» وكأنها امتداد لتوجهات النظام السابق الذى لا يقيم دور الدولة فى دعم التعليم الحكومى إلا من خلال عدسة سد احتياجات الفقراء، بل ولا يتوانى عن جذب الموارد الخاصة لتخفيف العبء المالى عن كاهل الدولة وكأنها ليست أحد التزاماتها الأصيلة. من البديهى أن احتياجات الفقراء من مدارس ومرافق ومستوى تعليمى تكاد تصرخ استغاثة بمن يسعفها. لكن أعلينا حقا أن نعتمد على المسئولية الاجتماعية لكبار المستثمرين (الذى ارتبط سخاؤهم تاريخيا بما تقدمه لهم الدولة من امتيازات) للنهوض بتعليم أقل ما يقال عنه أنه منهار؟ والأخطر، هل علينا حقا الاختيار بين الانفاق على التعليم الاساسى والتعليم العالى؟ أو لا يعنى إلغاء مجانية التعليم العالى التضحية بمبدأ ترسخ لمدة ستين عاما جعل من الالتحاق الجامعى حقا شبيها بحقوق المواطنة فى التعليم والصحة والعمل والسكن، باسم أولوية حقوق الفقراء؟ أما آن الوقت أن نتعلم من أخطائنا السابقة وأن نفهم أن استراتيجية محاربة الفقر هى إحدى الأدوات التكميلية للتنمية البشرية، ولا يمكن أن تحل محل حقوق المواطنة حتى فى ظل أزمة موارد؟ خاصة فى مجتمعات طالما عاشت من استثمار ثروتها البشرية؟
هناك العدل الاجتماعى على مستوى المجتمع والذى لابد له من أن يحفظ للجميع فرص متساوية ثم هناك العدل القطاعى الذى لابد وأن يدعم العناصر الأكثر احتياجا ــ أو الأقل جهوزية ــ عبر عمليات تمييز إيجابى لتمكينها. يا حكومة ما بعد الثورة: لا تخيرينا بين هذا أو ذاك، إننا نحتاج مسارى العدل معا ولذا قامت الجماهير بثورة.